الصفحة الأساسية > الأخبار > من شعراء لعصابه

من شعراء لعصابه

السبت 8 شباط (فبراير) 2020  12:00

محمد ابراهيم ولد الداه

كتبت هذه المحاضرة سنة 2010 لتلقى في مهرجان الموسيقى والتراث بولاية لعصابه يومها، وأخرجتها مطبوعة ورقية . غير أنها لم تر طريقها إلى النشر الرقمي أبدا . وبمناسبة حديث الزملاء الأساتذة هذه الأيام عن أدب لعصابه وأدبائها يشرفني أن أقدم المحاضرة إلى وكالة كيفه للأنباء لاحتفائها واهتمامها الكبير بتراث الولاية وأدبها ولعموم الفائدة .

عبد الله ولد سيدي محمود الحاجي (ت 1839) : في النســـــــــــــــيب

محمد المصطفى ولد دداه المسومي (ت 1952) : في الغزل والنســـيب

أحمد سالم ولد السالك الحاجي (ت 1245هـ) : في الحماسة والفروسية

محمدي ولد أحمد فال الجكني (1909 ـ 1969) : في المقاومة الثقافيــة أحمد ولد حكي القلاوي ( 1917 ـ 1996) : في

الشعر الوطني الإصلاحي الداه ولد سيد الأمين ولد أحمد الكنتي ( بيننا ولله الحمد): في شعر الرثاء

المقدمة

يحتل الشعر في الثقافة العربية مكانة سامية لم يرق إليها غيره من ألوان تلك الثقافة حتى قيل الشعر ديوان العرب . وقد دون العرب في ديوانهم ذاك شتى مناحي حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ،وعبروا عن أفكارهم مشاعرهم في بوح يكلله الصدق ويطبعه الإخلاص .ولم تكن البيئة الموريتانية استثناء لهذه القاعدة . فقد عرفت موريتانيا بالثقافة وبالشعر أكثر مما عرفت بأي نشاط إنساني آخر، فقد بنى الموريتانيون المساجد وأقاموا المكتبات وأسسوا المحاظر جامعات صحراوية متنقلة ، فواكب الشعر هذه النهضة وكان لسان حالها وترجمانها الأبلغ

وإذا كانت المدن التاريخية الوطنية و(بلاد القبله) وتيرس وتكانت قد حفلت بالشعر واشتهرت به، فإن منطقة لعصابه قد انبتت الشعر وأنجبت الشعراء، يظهر ذلك من تصفح المقطوعات والقصائد المطولة ، والدواوين الشعرية التي وقفنا عليها وسمعنا عنها، لشعراء أفذاذ ينضح إنتاجهم برسوخ القدم في مجال الشعر والأدب من أمثال عبد الله ولد سيدي محمود الحاجي ومحمد المصطفى ولد دداه المسومي ومحمدي ولد أحمد فال الجكني وآب ولد اخطور الغني عن التعريف وأحمد سالم ولد السالك الحاجي وأحمد ولد حكي وآخرون كثيرون لم نقف على إنتاجهم لضيق وقت إعداد هذه الورقة .

وبإلقاء نظرة على النماذج الشعرية التي وقفنا عليها للشعراء أعلاه نجد أن شعراء لعصابه لا يخرجون عن عمود الشعر العربي المتعارف ، وعن تقنيات القصيدة الجاهلية والعباسية ذات البحر والقافية والروي الموحدة والمواضيع المتعددة .فالشعراء في لعصابه كثيرا ما يبدؤون قصائدهم بالوقوف على الأطلال ثم التغزل ثم يتخلصون إلى المديح أو الحماسة أو الوصف أو غيرها من مواضيع القصيدة العربية القديمة . غير أن عبد الله بن سيدي محمود الذي نورد له أقدم نص شعري لشعراء لعصابه وقفنا عليه مثبتا في كتاب الوسيط ، يبدأ مقطوعته القصيرة بالأطلال وينهيها بالأطلال حيث يقول : حبذا أربع لدى اتفيتنات *** بعد لأي عرفتها مقفرات ظلت أذرو الدموع فيها وقلت *** لربوع عرفتها عبراتي وخشيت احتراق الأربع لولا *** ديم الدمع من لظى زفراتي فعلى الأربع المحيلة مني *** وعلى الحي أطيب التحــيات

نرى عبد الله الشاعر هنا في وقوفه على الأطلال لا يخرج عن سنة الجاهلين فهو يعيد صورهم وتعابيرهم ومعجمهم اللغوي فهو يبدأ بمساءلة الدمن البوالي والأربع الدارسات ، يميزها بعد لأن وقد أقفرت من أهلها ، ثم يذري مصون الدمع ويعبر عن مكنون المحبة والهوى لهذه الأربع المقفرات الموجودة لدى "اتفيتنات"شمالي مدينة كيفه الحالية تعرف بهذا الاسم حتى اليوم مثلما وجدت أربع امرئ القيس بين الدخول وحومل وحول دارة جلجل . وفي نهاية الأبيات يقرئ عبد الله سلامه الحار الممزوج بالدموع والحسرات على الأربع المحيلة وعلى الحي الذين عمروها ذات يوم وكانوا السبب في محبتها وعشقها . واللافت أن عبد الله لا يتخلص من بكاء الديار إلى الغزل ولا يذكر محبوبا بعينه كأنما أغنى البكاء على الأطلال عن البكاء على المحبوب ووصف محاسنه ومفاتنه .

وإذا كنا نفتقد هذه الثنائية ، ثنائية الغزل والأطلال عند عبد الله ولد سيد محمود لأسباب يطول الحديث عنها فإننا نجدها ماثلة في شعر محمد المصطفى ولد داداه مثولها عند امرئ القيس ولبيد بن ربيعة وغيرهما من أئمة الغزل والنسيب . يقول ابن دداه من رائيته الشهيرة (مغان بذات الضال):

مغان بذات الضال أقوين والسدر *** بمنهمر المزن السحوح وبالقطر

تلوح ولأيا ما تلوح كأنـــــــــــــــها *** بقايا زبور لا ئحات على سطر

وقفت بها مسيا وقوف أخي جوى *** مدامعه تجري على ثغرة النحر

أسائل عن حي حلال عهدتهم *** هنالك حلوا مذ عصور ومذ دهــــر

فـعيت وما ردت جوابا لسال *** يكابد أنات صدرن من الصـــــــدر

كأن لم تعش فيها غوان نواعم *** غنين عن الحلي المصوغ من التبر

عفائف لم يخضعن بالقول مرة *** فيطمع في نيل الوصال أخو غدر

أول ما نلاحظه في هذه الأبيات هو أن الشاعر يحدد مكان وجود الأطلال المبكية على طريقة الجاهليين فهي موجودة بين ذات الضال والسدر، والضال والسدر ضربان من الشجر . ثم ذكر أسباب إقوائها واندثارها وأن ذلك كان بسبب ماسح عليها وانهمر من مياه المزن فانطمست معالمها التي أحبها ذات يوم وأصبح لأيا ما يميزها على طريقة صاحب دار مية حين يقول :

إلا الأواري لأيا ما أميزها *** والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

فهي أشبه شيء ببقايا الخط المحيل على صفحات دارسة . ثم يدلف الشاعر إلى ذكر ووصف لحظة وقوفه بالمغنى وديار الأحبة وأن ذلك كان في وقت المساء . والمساء لحظة زمنية وقف فيها الكثير من الشعراء بالأطلال يقول النابغة الذبياني

وقفت بها أصيلالا أسائلها *** عيت جوابا وما بالربع من أحد

. ولسنا نعرف سببا واضحا لذلك إلا ما نتصوره من أن المساء هو لحظة اختفاء أشعة الشمس الحارقة في الصحراء العربية وانتعاش النفوس التي أمضها الحر . فيخرج الشاعر قصد الراحة والاسترخاء فتقوده خطواته إلى ديار أحبته دمنا بوالي ومغاني مقفرة وقد عرفها وأحبها ذات يوم آهلة مؤنسة بالأحبة والأصحاب فيكون الشعور والفكر والبوح بهذا الشعر الذي يفيض حرارة وعاطفة . و للمساء أيضا دلالات وجودية كثيرة منها أنه يوحي بالنهاية ، نهاية النهار ونهاية الشاعر وربما نهاية الكون من حوله , وهذا ما نجده في العصر الحديث عند مطران خليل مطران في رائعته المعنونة في ديوانه ب" المساء " حين يقول : يا للمساء وما به من عبرة *** للمستهام وعبرة للرائي

لكن عم يتساءل ولد دداه وهو يقف على ربوع أحبته المحيلة في المساء ؟ هو يتساءل عن حي حلال أي مقيمين عهدهم . ولكن هذا الحي ارتحل اليوم وخلف مغانيه المقفرة ودمنه الدوارس وفتى يمضه الأسى وتضطرم الأحزان في نفسه ، يقف على تلك الدمن البوالي والمغاني الدارسة تلوح ولأيا ما تلوح ، لا يكاد يميزها ، فتتقد الأحزان في صدره من جديد فإذا هو يتساءل ويتسلى بلحظات الوصال الممتعة التي ظفر بها ذات يوم على حين غفلة من زمانه ورقبائه في تلك المغاني وهي آهلة مؤنسة .

مغان بذات الضال أقوين والسدر *** بمنهمر المزن السحوح وبالقطر تلوح ولأيا ما تلوح كأنــــــــــــــها *** بقايا زبور لا ئحات على سطر وقفت بها مسيا وقوف أخي جوى *** مدامعه تجري على ثغرة النحر

ويتخلص ابن دداه من وصف المغاني الدارسة إلى وصف من كن بها ذات يوم من غوان نواعم غنين بجمالهن الأصيل عن مستجلب الزينة وطريفها تماما كظباء فلاة المتنبي عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ، يقول ابن دداه:

كأن لم تعش فيها غوان نواعم *** غنين عن الحلي المصوغ من التبر

ثم يصل ابن دداه إلى ما يشبه خاتمة القول وسدرة المنتهى في وصف تلك الأوانس الناعمات ناعتا إياهن بالتنزه والعفاف في إشارة صريحة إلى الآية الكريمة حين يقول :

عفائف لم يخضعن بالقول مرة ***فيطمع في نيل الوصال أخو غدر

وهو يذهب بنا هنا في معارج الغزل العذري الذي يجهل أو يتجاهل اللذة الحسية ويعنى فقط بما يكابده المحب من حرقة وجوى . وقد عرف الأدب العربي هذا اللون من الغزل على يد جميل بثينة الذي يقول يريد حبيبته بثينة :

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها *** ويحيى إذا فارقتها فيعود

وقد ورد الغزل العذري عند شاعر آخر من شعراء لعصابه هو محمدي بن أحمد فال في رائعته " بحير اللهو " حين يقول : ليالي غيد الحي يغرين بالهوى *** يواصلننا همسا ويبخلن باللمس

وقد روى الكثيرون ـ وروينا معهم ونحن صغارـ هذا البيت الجميل لابن أحمد فال على النحو التالي : (ليالي خود الحي يغرين بالهوى) ولا نحسب بن أحمد فال قال كذلك وإنما قال كما أوردنا أعلاه ( ليالي غيد الحي ) مستخدما جناسا جميلا بين الغيد و(يغرين ) ومحترما قواعد اللغة العربية فالخود في اللغة مفردة وهي (المرأة الشابة ) ولا يستقيم إتباعها ب( يغرين ) على صيغة الجمع بينما (غيد الحي ) والجمع غيداء وهي ( الناعمة المتثنية في مشيتها ) هي التي يمكن أن تتبع ب ( يغرين) وهو ما قاله ابن أحمد فال حسب رأينا .

وإذا تجاوزنا أدب الغزل والنسيب إلى غرض آخر من أغراض الشعر العربي هو الحماسة والفروسية وجدنا في هذا الميدان شاعرا مفلقا وفارسا لا يشق له غبار أنجبته ولاية لعصابه أو عاش فيها أو كان على صلة بأهلها هو الشاعر أحمد سالم ولد السالك الحاجي المتوفى سنة 1245 هـ .فقد وقفنا على قطعتين لهذا الشاعر في رسالة حققها وناقشها الأستاذ عابدين ولد سيد الأمين في مدرسة الأساتذة العليا بنواكشوط سنة 1982. الأولى يصف فيها الشاعر مدفعه والثانية يصف فيها فرسه" لعناي"

وتشي القطعتان برسوخ قدم ناظمهما في الشعر وبتمكنه من ناصية اللغة العربية وإلمامه الواسع بعيون الشعر العربي القديم ، كما تنضحان بكل معاني الفروسية والشهامة والإباء التي تحلى بها الآباء والأجداد والتي يجب أن تظل إرثا مصونا يتلقاه الخلف عن السلف . يقول أحمد سالم من وصف مدفعه :

وبراحتى ذو جعبتين منمق *** صافي الحديد بلوته فيما بلي

راقت صفائحه وراق ذراعه ***زنداه مثل شهاب نار مشعل

قد جيد تحت المقبضين ونعله *** مضمومة وحجابه لم يبخل

يصف الشاعر هنا مدفعه ذا الفوهتين وهي ميزة لا تكون إلا في مدافع الأبطال المجربين وهو في ظاهره منمق أي محسن ومزين وفي باطنه أحكم صنعه من الحديد الصافي شديد البأس ، وقد جربه صاحبه وابتلاه في أكثر من معركة فكان كما أراد . أما صفائح هذا المدفع وذراعه وزنداه ومقبضاه ونعله وحجابه فقد وصفها الشاعر وصفا يدل على شدة العناية بهذا المدفع مما يدل بدوره على شجاعة صاحبه ورباطة جأشه وحرصه على أن يكون مدفعه مميزا في كل شيء ، في أدائه أثناء المعركة وفي صورته مسندا بين مدافع قومه وهو ما نتصور أنه كان، كما يشي بذلك هذا الشعر الحماسي الجميل .

وتقل المدفع وصاحبه في أرض المعركة هذه الفرس المسماة "لعنايه" التي "تختال" حسب تعبير أحمد سالم بفارسها بين الجنود مجددة مشية أبي دجانة الخالدة إلى العدو في أرض المعركة. وتصبر هذه الفرس على ما يصبر عليه فارسها من حر نيران الوغى . يقول أحمد سالم :

تختال بي بين الجنود وتصطلي *** من حر نيران الوغى ما أصطلي

ويدل الاختيال أثناء المعركة وهو تعبير فيه الكثير من المبالغة على السكينة والتوأدة والاسترخاء ورباطة الجأش مما يدل على كرم الفرس وشجاعة فارسها . ويردف أحمد سالم قائلا

تحتي العناية والمروءة شيمتي ***ترد الموارد في الرعيل الأول

بمعنى أن العناية هي أولى الخيل مدفوعة بفارسها إلى الإقدام . وتروي التقاليد المحلية أن المعارك التقليدية القديمة أخطر ما فيها لحظاتها الأولى حيث يستخدم فيها الرصاص المعد سلفا والمسمى ب" المكتنات " أما بعد ذلك فيكون التراشق بالبارود غير المعبأ والأقل خطرا . ويروي أحمد سالم من مآثر فرسه سبحها باتجاه العدو ،

أرخي العنان لها فتسبح سبحها *** نحو العدى وأشده في الموئل

ولعله استعار السبح من فرس ابن الحسين "أعز مكان في الدنا سرج سابح" وهذه الفرس إذ تسبح باتجاه العدو سبحا وقد أرخى لها فارسها العنان ، تقف مرابطة حول المنهك والجريح تحميهما وقد بلغت القلوب الحناجر وطارت أفئدة الفرسان شعاعا . وهي صبور على اقتحام معاقل العدو ، خشاش معمعان الوغى، وقد طبق العجاج الآفاق واحتل القسطل كل مكان فلا يدري الفارس خلفه من قدامه .

وإذا العجاج علا وعم دخانه *** صبرت له وصبرت حتى ينجل

والشاعر إذ ينعت فرسه بهذه الصفات إنما ينعت نفسه بتعبير آخر .

يقول أحمد سالم في القطعة كاملة :

تحتي العناية والمروءة شيمتي *** ترد الموارد في الرعيــل الأول

تختال بي بين الجنود وتصطلي *** من حر نيران الوغى ما أصطلي

أرخي العنــــان لها فتسبح سبحها *** نحو العــدى وأشده في الموئـل

وإذا العجــــــاج علا وعم دخانه *** صبرت له وصبرت حتى ينجلي

تختال في خيلائــــــــــها وتكر بي *** كراتها عند ازدحام المــــــنهل

ونترك لحظة أدب الحماسة ، عجاجه وسنابك خيله لنطرق جنسا أدبيا آخر، يمتشق السلاح أيضا لكنه سلاح الكلمة والموقف الفكري والأدبي الملتزم، هذا الجنس هو أدب المقاومة الثقافية والأدبية ، نطرقه مع شاعر من شعراء لعصابه عرف الأنس ولياليه في وطنه، وهاجر إلى الشرق فضرب في محافله الأدبية ومعاهده ، وحضر مآتمه وأعراسه ، وشاهد من بطولات أهله وحربهم الاستعمار ما خلده في شعره ، ثم عاد إلى وطنه يقبل ثراه ،ويستنطق وأخباره وذكرياته الخالدة أيام بحير اللهو والصفو والأنس ، هذا الشاعر هو محمدي ولد أحمد فال الجكني .

لم نحظ بالوقوف على ديوان الشاعر المحقق بمدرسة الأساتذة العليا بنواكشوط سنة 1984 من طرف أستاذنا المغفور له سيد أحمد ولد الطالب هامه فنتطرق إلى المزيد من حياته وشعره .

ولكن قطعتين منشورتين بمجلة المعهد التربوي بكيفه سنة1995 تقدمان لنا نموذجا رائعا من شعر المقاومة الثقافية عند محمدي ولد أحمد فال وطنيا وقوميا . القطعة الأولى أبرق بها الشاعر على جناح السرعة إلى المؤتمرين في "مؤتمر العيون "حول ترسيم اللغة العربية في المناهج التربوية الوطنية ، والثانية كتبها وهو في دمشق يشيد بصمود وبطولات أبناء دمشق الشام بعد ضرب الأسطول الفرنسي لها .

جاء في القطعة الأولى :

لسان الضاد يرمق بالعيون=إليك اليوم مؤتمر العيون

ففكر في ديون الضاد حلت=أمؤتمر العيون ف بالديون

فطورالشعب كان علي منام=تطوربعده طور الجنون

لسان الضاد فارغة الفؤاد=كفاها من جفا(وي ونون)

بريعان الشباب زهت وتاهت=فهي اليوم يانعة الغصون

فرسمها وإن غضبت(فرنسا)=وخل النوم ينعم بالجفون

وخل رطانة هرمت وشابت=فهي اليوم موشكة المنون

صرخة وطنية أبية يطلقها محمدي ولد أحمد فال في وجه المستعمر الفرنسي الذي همش لغته العربية الجميلة ، لغة آبائه وأجداده ، وأحل محلها لغة أجنبية وافدة لا تترجم عن وفكر ولا تعبر عن وجدان في هذه الربوع العربية الشنقيطية التي ما رضيت بغير الفصحى لسانا . ويضمن ابن أحمد فال قطعته الشعرية "المانيفست" شتى مظاهر التهديد والوعيد عن طريق أفعال الأمر المتتالية :( فكر ، ف ، رسم ، خل )

ففكر في ديون الضاد حلت *** أمؤتمر العيون ف بالديون .

فرسمها وإن غضبت أروبا *** وخل النوم ينعم في الجفون

فترسيم اللغة العربية دين وأي دين . هو دين تطالب به الآلاف، وتضحي في سبيله الملاحين ، يهجر الآباء في سبيله لغة المستعمر ويقاطعون مدارسه ويرفضون إغراءاته المادية المتعددة ويلوذون بحصنهم الحصين في حضن المحاظر والمكتبات والجوامع الشنقيطية الآهلة بالعلم والعلماء ، خير ملجأ وملاذ من جفا وي ونون ، ومن رطانة أعجمية عجوز تلفظ أنفاسها الأخيرة . وإذ يطالب ولد أحمد فال بترسيم اللغة العربية فإنه يعي المخاطر والتحديات وهي غضب أوروبا ، لكنه يستهزئ بهذا الخطر وبتلك التحديات ويستصغرها فلترسم اللغة العربية وليعرف الكرى والسلام إلى عيون أبنائها الموريتانيين سبيلا ، أما أوروبا فلتفعل ما تشاء ، تغضب أو لا تغضب ، فشعب شنقيط يستعيد حريته وكرامته ويبني أصالته ومستقبله في ظل لغته الوطنية ودينه الإسلامي الحنيف . وإذ يستخدم الشاعر كلمة أوروبا فقد يعني فرنسا من باب إطلاق الكل مع إرادة الجزء .وقد يكون أبن أحمد فال يعي ما يقول و يريد أوروبا كلها لا فرنسا ، لأنه لو أراد فرنسا لجعلها محل أوروبا دون مساس بالوزن . لكنه توقع غضب فرنسا وغضب آخر نصير لفرنسا وهو أوروبا حزما وحيطة ، فلتغضب فرنسا، ولتغضب أوروبا معها، فلا بد من ترسيم اللغة العربية ولا رجعة في ترسيمها .

فرسمها وإن غضبت أوروبا *** وخل النوم ينعم بالجفون

وخل رطانة هرمت وشابت *** فهي اليوم موشكة المنون

و لا يزال ابن أحمد فال يحمل مشعل المقاومة أنى حطت رحاله من الأرض العربية فهاهو يحتفل بالنصر مع أبناء دمشق الشام إثر اعتداء الأسطول الفرنسي الشهير عليها فيصدح قائلا كأنما ينشد أبياته الخالدة اليوم ودمشق تقارع نفس الأسطول ونفس الأعداء ، يقول : :

تيــــــهي دمشق بلا من ولا عار ***ماذا تجرعت من مر وأكـــدار

تيهي دمشق كساك النصر سندسه *** مخضبا بدماء الظالم الضاري

كـــــــم دافعو عنك من سود مصفحة *** تسطو مسلحة بالمدفع الناري

كــــم قاتل قتلوا كم صائل دفعوا *** كم فاتك فتكوا يعدوا بأضــــــــرار

وما أعــــــــــــدوا الوغى إلا عصيهم *** أو البطولة أو رميا بأحجار

يا جنة العرب الأولى التي فتحوا *** لا زلت في حلل خضر وأزهار

ويقودنا الحديث عن أدب المقاومة والغيرة على الوطن وتراثه مع ولد أحمد فال ، إلى جنس أدبي آخر أنبتته أرض لعصابه وتفتقت عنه عبقريات شعرائها وأدبائها هذا الجنس هو أدب الإصلاح الاجتماعي والوطني . ونأخذ له نموذجا قامة فارعة بين أدباء لعصابه ـ وإن نازعنا فيه محقا الحوض الغربي ـ ، وعلما من أعلامها البارزين كرس للإصلاح حياته وانفق أيامه في العمل به والدعوة إليه ، هذا العلم هو فصيلة القاضي المغفور له أحمد ولد حكي الغني عن التعريف . تخرج أحمد ولد حكي في المحاظر الموريتانية عالما ولغويا وفقيها ثم تولى القضاء مبكرا فمارسه في عدة محاكم ، وكان الأدب والشعر رفيقين له في حله وترحاله . وله في المراسلات والإخوانيات قصائد عديدة غير أننا اخترنا جانب أدب الإصلاح من شعره ممثلا في قصيدته الرائعة المعنونة ب :" المواطن المثالي" حيث يقول فيها :

إن المواطن من يرى كمثال

يسعى لصالح قومه ولشعبه

أقواله مصداقها أفعاله

آماله دوما بقصد بنائه

أمواله مبذولة لبنائها

أفعاله في خارج وبداخل

أهدافه إرشاد كل مواطن

ما إن تراه كخائن بل سالما

أخلاقه محمودة مأثورة

متحليا بشريعة سمحاء ما

متمسكا بمبادئ في حزبه

في وحدة وعدالة ونزاهة

بالعلم لا بالجهل ينصح دائما

ما إن يغش بلاده ومهاده

ثبت العقيدة لا يرى متزلزلا

خال من التلوين في كلماته

هذا المواطن في اعتقادي إنه

لهو النصوح بسائر الأعمال

سعي الحنون لأضعف العيال

قد تصدق الأفعال للأقوال

في دولة مرفوعة الآمال

ولسانه في ذا البنا كالمال

تمثيلها من أحسن التمثال

كي لا يكون بسلة الإهمال

من اختلاس دراهم الأموال

يشري المكارم والعلا بتغال

إن قد يرى في زمرة الجهال

ومقاوما متجاهرا بنصال

ومضحيا بالروح للأجيال

للشيب والشبان والأطفال

بل كله في النصح والإقبال

بل سالما من كل ما زلزال

حر الضمير حمولة الأثقال

هو المواطن عندنا كمثال

وباستقراء رائعة أحمد ولد حكي في الإصلاح نجده يرسم صورة واضحة المعالم للمواطن الصالح هو من : يسعي للوطن وللصالح العام :

يسعى لصالح قومه ولشعبه *** سعي الحنون لأضعف العيال

يعمل من أجل بناء الوطن :

آماله دوما بقصد بنائه ***في دولة مرفوعة الآمال

يحسن تمثيله في الداخل والخارج :

أفعاله في خارج وبداخل *** تمثيلها من أحسن التمثال

يؤتمن على تسيير المال العام :

ما إن تراه كخائن بل سالما *** من اختلاس دراهم الأموال

فآفة اختلاس المال العام فيما يبدو كانت موجودة أيام العلامة أحمد فجعل السلامة منها شرطا أساسيا من شروط المواطن الصالح . ومن صفات المواطن الصالح أيضا :

حسن السيرة والأخلاق :

أخلاقه محمودة مأثورة *** يشري المكارم والعلا بتغال

في ظل عالم تدنت فيه الأخلاق وتعلق الناس عندنا بما ليس لهم منها وتنكروا لموروثهم الأصيل العريق . التعلق بالعلم والعمل به :

بالعلم لا بالجهل ينصح دائما ***للشيب والشبان والأطفال

قوة الإيمان ورسوخه :

ثبت العقيدة لا يرى متزلزلا *** بل سالما من كل ما زلزال

ولو أوقف العلامة رائعته على هذا البيت وحده لكان كفاه ، فبقوة العقيدة وتباتها أمام زلازل الأفكار الهدامة وزعازعها تبلغ الشعوب كل مبتغى، وتصل بالعقيدة الموحدة الراسخة كل آمالها في الرقي الازدهار. وكأني بالعلامة بما أوتي من بعد نظر وصدق بصيرة ينظر إلى عالمنا اليوم تتربص فيه الأفكار الشاذة والمآرب الضالة المضلة بكل ما هو صحيح فطري سليم بما في ذلك العقيدة قصد تحريفه وتشويهه فلم يبق إلا أن ننادي ونبحث مع العلامة عن المواطن :

" ثبت العقيدة لا يرى متزلزلا ***بل سالما من كل ما زلزال

ويختم العلامة رائعته في المواطن الصالح والمثالي بهذين البيتين :

خال من التلوين في كلماته *** حر الضمير حمولة الأثقال

هذا المواطن في اعتقادي إنه *** هو المواطن عندنا كمثال

ونختم نحن حديثنا القليل المجتزأ عن شعر ذلك العلامة المتبحر أحمد ولد حكي ميممين وجهنا شطر صنوه وصديقه وزميله في مهنة القضاء الشاعر والأديب الداه ولد سيد الأمين ولد أحمد الكنتي . ولأن جميع من قدمنا لهم مضوا في ذمة الله بمن فيهم العلامة أحمد فقد فضلنا أن نتطرق من ديوان الداه لباب المراثي ، مراثي أعلام ولاية لعصابه ووجهائها .

وشاعرنا الداه ولد سيد الأمين ولد أحمد من مواليد الرشيد بولاية تكانت . شب هنالك وترعرع وتفتقت شاعرية ، ولم يزل به الترحال في سلك الوظيفة إلى أن أناخ بولاية لعصابه في الربع الأخير من القرن الماضي فألقى عصاه واستقر به النوى و ربطته علاقات حميميه ،أحيانا ، بأعيان لعصابه وأعلامها فرثى من غادرونا منهم ولم يبخل بدمعه ودمه في ذلك الرثاء . يقول من رثاء المغفور له محمد الراظي ولد محمد محمود شيخ أهل سيدي محمود :

خطب جليل أصاب السهل و العلما

دمعا ضننت به في كل نائبة

يا رزء (كيفة) يا رزء (الرقيبة) يا

اليوم تعلم (كيفا) أنها رزئت

بناه مجدا تليدا لا يغيره

ادخل إلهي محمد الراظي منزله

وأغدق عليه نوالا طيبا عطرا

يا أيها المتوفى في النوى أسفا

يقدس الله تلك الروح ما بقيت

وخلف الدمع فوق الخد منسجما

واليوم أعذره أن يستهل دما

رزء (العصابة) يا رزء الورى أمما

بمن بنى المجد في أرجائها قمما

كر الدهور ولا يهدمه من هدما

من الجنان والبس روحه النعما

يبقى مع الدهر لا يشكو له ألما

يا أيها المجتبى يا آخر العظما

ويرحم الله ذاك الجسم ما رحما

ويقول من رثاء عثمان ولد أحمد ولد عثمان أمير إدوعيش

دمع العصابة مذرف هتان

رزء أصاب نجادها ووهادها

مثل الشهامة والمروءة والإبا

أمرت في كنف الشجاعة والحجا

فحفظت ذاك المجد في قمم العلا

يهفو إليك السائلون يد الندى

أمنت بجيرتك الوحوش من الأذى

يا آل أحمد آل عثمان الذرى

لو كان هذا الموت يقرع بالقنا

لكنه الحق الذي يأتي على

عضوا على المجد التليد وصابروا

والله يكلؤكم ويحفظ مجــــــــــــــــدكم

يا نجل أحمد نم بحفظ الله في

نعم المسافر أنت عن هذي الدنا

تلقى بروضتك الأنيس ورحمة

مذ غاب غرة مجدها عثمان

أنى لها أنى لها السلوان

ثكلت بفقدك والورى ثكلان

والمجد قد شيدت له أركان

في السلم لا ظلم ولا شنآن

وحماك كهف للضعيف أمان

وسرى بعدلك في الورى ركبان

يوم اللقاء إذا التقى الأقران

ما نال منكم بل رداه سنان

كره فأحسن حربه الرضوان

بالصبر يرفع عزكم ويصان

كرما ومنا إنه المنان

ذاك الضريح فروحه ريحان

نحو الرفيق وزاده الإيمان

والله جل جلاله الرحمن

ويقول من رثاء صديقه وحبيبه شيخ المتصوفة في أيامه المغفور له محمد عبد الله ولد أب الجكني

شيخ الشيوخ وصفوة الأقطاب

ومنار علم دافق ومتاب

ومكارم الأخلاق دون حجاب

باق مدى الأيام والأحقاب

تهدي القلوب بسنة وكتاب

وبلاغة طبعت وفصل خطاب

والقوم بين مشايع ومحاب

طلب الدنا بالدين كل طلاب

لم تلف يوما واقفا بجناب

وتزاحموا بمرافق ورقاب

كنت المقيم بأبرج وقباب

حاشى لمثلك زهوة بثياب

ومنازلا من غرة وسراب

ونأيت عن تبر بها وتراب

يحكي هواطل ديمة وسحاب

وأواصر القربى أعز جناب

أيان تنزل بالحريم ركابي

يلقى بذاك القبر خير متاب

تلقى القبول لدى العلي الأواب

صبرا حماة الدين بعد ذهاب

نجل أب غبت وكنت منبع رحمة

كنت الشريعة والحقيقة والندى

إن غاب شخصك فالصنيع مخلد

أسست مسجدك العتيق مرابطا

وبثثت علمك في الصدور بحكمة

وصدعت بالحق المبين لذاته

وحفظت هذا الدين من فعل الذي

وعرفت قدر العلم تعلي شأنه

بل لاذ عندك أهل كل ملمة

واخترت بيتك من عريش لو تشأ

ولبست جبتك العتيقة زاهدا

أبصرت دنيا الناس مثوى ساعة

فنفضت أيدي الحق من شهواتها

يا راحلا عنا وفيض دموعنا

أرثي خصالك والقرابة بيننا

لم أنس فضلك والسماحة والندى

أأنس بقبرك أنت خير مشيع

وأقبل دعاء الشعر ينزل رحمة

أيها الحضور الكريم هذا ما سمح به الوقت من شذى وعبير شعراء لعصابه .وإذا كنا بهذا الجهد المتواضع قد لفتنا الانتباه إلى بعض مكنونات هذا الشعر وبعض أعلامه، فقد بلغنا من جهدنا المنى ووصلنا إلى غاية ما يمكن أن نصل إليه .

والسلام عليكم ورحمة الله

كيفه في 04/04/2010

الأستاذ/محمد ابراهيم ولد الداه

22443605

المراجع :

ـ ابن الأمين الشنقيطي : الوسيط

ـ مجلة المعهد التربوي بكيفه السنة : 1996

ـ عابدين ولد سيد الأمين : تحقيق اللامية الكبرى للشيخ سيدي محمد بن ش س المختار الكنتي/ 1882 مدرسةالأساتذة العليا انواكشوط

ـ محفوظ ولد محمد لمام : تحقيق ديوان أحمد ولد حكي .

ـ محمد ابراهيم ولد الداه : تحقيق ديوان الداه بن سيد الأمين بن أحمد /مدرسة الأساتذة العليا نواكشوط /1988

ـ مراجع شفوية متعددة .

3 مشاركة منتدى

  • من شعراء لعصابه 19 نيسان (أبريل) 2016 15:11, بقلم مصطفى ولد زين

    شكرا جزيلا أستاذ محمد ابراهيم معلومات ثرة وممتعة عن المنطقة جزاكم الله خيرا ، بخصوص كلمة خود وغيد فالصحيح ما في الرواية الشائعة فالخود بالفتح مفرد وجمعه خود بالضم وهذا نص ابن منظور في اللسان : الخَوْدُ: الفتاة الحسنة الخَلق الشابة ما لم تصر نَصَفاً؛ وقيل: الجارية الناعمة، والجمع خَوْدات وخُود، بضم الخاء، مثل رمح لَدْن ورِماح لُدْن ولا فعل له.

    الرد على هذه المشاركة

    • من شعراء لعصابه 26 كانون الأول (ديسمبر) 2019 10:08

      أحسنت التعقيب . ونص لسان العرب ما بعده اعتراض لم ابحث عن معنى الخود في القاموس إنما استحسنت ذاك الجناس فأوردته .أفادك الله .وولد أحمد فال مؤتمن على لغة الضاد .

      الرد على هذه المشاركة

  • من شعراء لعصابه 18 أيار (مايو) 2016 12:19, بقلم صدف ولد احميتي فال

    شكرا للأستاذ الشاعر محمد ابراهيم على هذه المعالجة الأدبية الشيقة لأربعة شعراء من شعراء العصابة و أشيد بأهمية هذا النوع من المعالجات و حاجتنا إليه،و عطفا على ما ذكر الأستاذ حول استبدال كلمة خُود بكلمة غِيد فلعل الأستاذ محمد ابراهيم يعني خَوْدُ التي هي مفرد أما جمعها فهو خُودٌ و عليه فإن الشاعر ولد احمد فال كتب قصيدته فعلا على نحو ما حفظناها عليه و الجناس الذي أشار إليه أستاذنا-رغم جماليته-لا يستوجب التدخل في نص الشاعر و استبدال مفردة بأخرى دون الحاجة إلى ذلك

    الرد على هذه المشاركة

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016