الصفحة الأساسية > تحاليل > العولمة والسخط

العولمة والسخط

الخميس 20 أيلول (سبتمبر) 2012  01:04

عبد العزيز الفهد

إن العنف الذي تولد مؤخراً في مختلف العواصم الإسلامية ضد سفارات الولايات المتحدة (وغيرها من الدول الغربية) وما صحبه من خسائر بشرية ومادية ما هو إلا نتيجة متوقعة وحزينة للعولمة. فالعالم يتفاعل معاً من خلال التطور الكبير للتكنولوجيا الحديثة وللنظم الإقتصادية المتكاملة في جانب والنزاعات المهتاجة التي تظهر من آن لآخر في العالم الثقافي علي الجانب الآخر. فآخر موجات الغضب التي جاءت رداً علي الفيلم الذي أنتج لتشويه نبي الإسلام (ص) والمسلمين هو أحدث فصول الصراع الدائر الذي يتفاقم بمرور الوقت نتيجة ما يعرف بالإسلاموفوبيا في الغرب. وقد ساعد علي حدة الصراع الآن ضعف الأجهزة الأمنية في عدة دول عربية خاصة تلك التي مرت بإنتفاضات شعبية علي حكامها وكذلك قدرة مختلف الأطراف علي استغلال الفراغ الحادث للوصول لأهدافهم السياسية.

لو أن هذا الفيلم أو التهديد الذي يطلقه أحد التبشيريين بحرق نسخ للقرآن الكريم في ولاية فلوريدا أو الكاريكاتير الدنماركي المسئ للنبي قد حدث منذ عدة عقود مضلت لمر دون أن يلحظه أحد (علي الأقل ممن أسيء إليهم) وبالتالي لما تسبب في ظهور احتجاجات عنيفة عبر مختلف القارات. ولكن في حاضرنا الذي يتصف بالعولمة ومع تطور مختلف وسائل الإتصالات وشبكة التواصل الإجتماعي التي أصبحت متاحة للكثيرين فما يحدث في أبعد مكان في العالم ينتشر فوراً في كل مكان محدثاً نتائج مميتة كتلك التي نراها اليوم. ومن هذا التنوع البشري ولكن المتواصل حيث يتولي السلطة أشخاص هامشيين, دوماً ما نجد من يتأذي للتجريح المقصود الذي ينبعث من أراض بعيدة. وبالرغم من التنديدات الفعالة والصادقة التي تصدر من أطراف حساسة علي الجانبين إلا أنه من غير المتوقع أن نشهد نهاية قريبة لهذه الدائرة المفرغة التي تجلبها تلك الإساءات.

في مجتمع يعد مبدأ حرية التعبير والعلمانية من أبجديات الحياة هناك, نجد أن الإساءة للرموز الدينية وإن كانت مثيرة للجدل تمثل حديث حر يحظي بالحماية بأمريكا. علي العكس يري الكثير من المسلمين أن أي تجاوز علي الرموز الدينية التي يبجلونها لا علاقة لها بأي حرية بل هي جزء من مقصد الغرب العنيد لتجاهل حساسية المسلمين. بعض الأطراف في العالم الإسلامي يري هذا الفيلم كأحدث صورة علي العداء القديم للمسيحية الغربية للإسلام منذ أيامه الأولي والتي تجلت في الحروب الصليبية والحقبة الإستعمارية ونشأة اسرائيل في قلب العالم العربي, هذا غير الغزو المريكي المسلح علي مختلف الأراضي الإسلامية. وتزداد هذه الدائرة المفرغة من سوء الفهم المتبادل بالإعتقاد الثابت — والذي ربما يكون غير دقيق داخل المجتمعات الإسلامية — أن أي شيء تنشره وسائل الإعلام الغربية يحظي علي الأقل بموافقة ضمنية من حكومات تلك الدول. وربما يرجع ذلك لحقيقة أن كثير من الدول الإسلامية لا تحظي بجرية تعبير خلال وسائل الإعلام المختلفة.

لهذا فإن النزاع ينظر إليه من خلال منظورين متعارضين بشكل صارخ. يبدو الغرب أنه يضع الأمر في إطار الصراع بين حرية التعبير في مواجهة الرقيب, بينما يري الكثيرين في العالم الإسلامي الأمر كإساءة مقصودة من الغرب بهدف الإبقاء علي هيمنته علي الأراضي الإسلامية. إذا ما استمر النظر لهذه الإختلافات من خلال رؤي متعارضة فالأمل ضعيف في التوصل لوسيلة لتحسين أو إيقاف هذه الغضبة العنيفة التي تظهر من وقت لآخر.

إلا أن إصرار الغرب علي وضع الأمر في إطار حرية التعبير في مواجهة الرقيب قد تتسبب في مخاطر إغفال نقطة أكبر بالإعتماد علي المخادعة. فالمجتمعات الغربية عليها أن تتلمس طريقها لتحدث توازن بين ما هو مسموح وما هو غير مسوح به في حرية التعبير وهو الأمر الذي يختلف من دولة لأخري. فبينما تحافظ الولايات المتحدة علي نظرة متشددة لحرية التعبير من خلال أول تعديل لقانونها فإن بعض الدول الأوروبية وكندا تعمل علي تطويق "خطاب الكراهية" من خلال تجريم بعض التعبيرات. هذا التباين بين الطريقين يمكن أن نراه مثلاً في معالجة قضية المحرقة (الهولوكوست) في النظام القضائي لتلك الدول. في الوقت التي تري الكثير من الدول أن إنكار المحرقة جريمة لا تحميها حرية التعبير وتستلزم عقاب مرتكبها. نجد القانون الأمريكي لا يسمح بالتجريم الكامل لمثل هذا التعبير, إلا أنه يتعامل معه بوسائل قانونية إضافية تتمثل في تهميش وإدانة مرتكب الفعل والتأكيد علي أن مثل تلك الأمور من المحرمات الغير مقبولة في إطارها العام.

في الوقت الذي يظهر الأمريكيون ولاءاً لقانونهم الأول نجدهم ينبذون تلقائياً اللغة الهجائية , كما حددتها الحساسيات المحلية الأمريكية, من الفضاء العام وذلك بتحريم شديد لمن يلجئون لإستخدام تلك اللغة وإبعادهم لهامش المجتمع. بالإضافة لجريمة إنكار المحرقة فكلمة زنجي أو Negro والتي يشار إليها بحرف N ربما تمثل النموذج الأوضح للتعامل العملي مع حرية التعبير, وتقليصها من خلال طرق غير قانونية في أمريكا من أجل الحفاظ علي السلام الإجتماعي. فلا أحد ينكر حق أي شخص في استخدام هذا اللفظ العنصري إلا أن هناك أداة إجتماعية فعالة تضمن أن من يلجأون لمثل تلك اللغة الجارحة سوف يتم تهميشهم من المجتمع ويوصمون بالجنون. بينما تحظي حرية التعبير في الغرب بإعجاب كثير من المسلمين إلا أنهم يظلوا ناكرين للغرب الذي يري أن تحقير الرب أو عيسي أو موسي أو محمد أمر يحظي بالحماية وإن كان يثير بعض الإدانات الخفيضة علي أحسن تقدير, في الوقت الذي نجد فيه إنكار المحرقة أو التلفظ بلفظ عنصري إما يجرم أو يصنف من المحرمات. من هذا المنظور لا يؤمن الغرب بفكرة حرية التعبير المطلقة ولكنه يكيف انحيازاته وفق لما يراه جارحاً من خلال الوسائل القانونية وفوق القانونية. بالطبع المنطق هنا يكمن في أفكار ثقافية وتاريخية وليست أفكار كونية . بالطبع مراعاة حساسية المسلمين لا تمثل جزء من هذا التراث الغربي.

لقد تخلصت المجتمعات الغربية من تاريخها القديم الذي يعكس انحيازاً فجاً وعنصرية ضد ا لآخرين فيما عدا المسلمين وهو الأمر الذي يمثل القلاع الأخيرة لتعصب أعمي مقبول. فالزيادة المتواصلة للإسلاموفوبيا (أو الخوف من الإسلام)ليس فقط كظاهرة هامشية ولكن في التيار الأساسي في تلك المجتمعات, يكذب الدعاوي الغربية عن القيم العالمية. وقد أحرز الغرب نجاحاً ملحوظاً في مكافحة العنصرية ضد السود ومعاداة السامية. بينما الكثير من الأشخاص في الغرب, وكذلك بقية أفراد البشرية, ليسوا صادقين في محاولتهم إخفاء مثل تلك الآراء الكريهة, نجد أن من يختارون أن يظهروا تلك الآراء سريعاً ما يتم إدانتهم وإبعادهم من الدوائر المحترمة أو أن يصل الأمر لسجنهم. ولكن عندما يتوجه الإنحياز والكراهية للمسلمين, يغيب أو يختفي حماة حدود حرية التعبير المقبولة. لهذا فإن منع المآزن بسويسرا تم وصمها بموافقة شعبية, كما تحول إرتداء النقاب في بعض الدول الأوروبية لجريمة (بالرغم من الإعتراف بكونه ممارسة هامشية بالكاد تستحق الإنتباه وليس إصدار قانون لتحريمه). كما أقام السياسيين الإنتهازيين بأمريكا جلسات استماع ضد المسلمين لينشرون حديثاً عن المخاطر الكاذبة عن الشريعة. كل هذا يشير إلي أن هناك جزء أعلي فقط للأمر وهو الوصول لحلول تقليدية في البحث في حقيقة المشكلة.

بالمثل ما يثبط الهمة أن الأشخاص المعروفين بترويج الرعب من الإسلام يكمنون في أروقة المؤسسات الحاكمة ويؤثرون في عملية صنع القرار بدلاً من أن يعاملون كمنبوذين. ولا تزال هليوود مشغولة بشيطنة المسلمين بتصويرهم كأشرار بطريقة نمطية غير متغيرة قلما جرءوا علي اتباعها مع أمم أخري. الجو العام الذي يبيح الهوس من الإسلام سمح للكارهين أن ينشروا نقدهم اللازع علي نطاق واسع دون أن يتكبلوا أي ثمن لأفعالهم كما كان يجب أن يكون الحال لو أن الأمر تعلق بنقد مجتمعات أخري. فإعلان صدر مؤخراً في مدينة أمريكية وصم المسلمين بالهمجية. أما إذا كانت شخصية المستهدف من النقد تنتمي لمجتمعات أخري مثل السود لكان الغضب الناتج قوي وكان الحديث عن حرية التعبير جدل غير مناسب. علي العكس ,حتي وقت قريب كانت قناة الجزيرة الإنجليزية تجد صعوبة في إيجاد موزع للخدمة في الولايات المتحدة التي أذعنت لرغبات وزارة الخارجية الأمريكية. هناك شكوك قوية في الكثير من الدول الإسلامية , لا نعلم مدي صحتها من خطئها, أن عملية قذف مكاتب قناة الجزيرة في كل من افغانستان و العراق كانت مقصودة وليست ناتجة عن خطأ غير مقصود. من خلال هذا الجو الغير صحي تتشكل رؤية المسلمين عن الغرب. هذا الفيلم المسئ للنبي محمد (ص) لا يمثل حادث منعزل ولكنه نسخة مقنعة للغة المقبولة (كمقابل لحرية التعبير) في الغرب.

هذا يبرئ المسلمين الذين يشاركون الغرب نفس خطيئة السماح بجو من عدم التسامح مع الآخر. فالغرب, خاصة أمريكيا, أظهرت آراء صاخبة , منذ أحداث 11 سبتمبر عن التعاطف ضد الغرب في العالم الإسلامي. فالمناهج الدراسية في كثير من الدول الإسلامية تم مراجعتها سواء إحترام لرغبات القوي الغربية وأيضاً اعترافاً بحقيقة أنه في عالم متكامل, مثل هذه الأجواء العدائية ليست فقط خاطئة مبدئياً بلي خطيرة أيضاَ. نفس الأمر حدث مع الدعاة غير المتشددين . فكثير منهم أعيد تثقيفهم وبعضهم تم التخلص منهم. لا يمكن أن يدعي أحد أن الدول الإسلامية التي تعمل علي مكافحة هذه الكراهية ضد الغرب قد نجحت في ذلك تماماً ولكنها تسير علي الطريق الصحيح, وهو الأمر الذي لانستطيع قوله علي الكثير من المجتمعات الغربية. بالرغم من ذلك فهذه الحركة تسير في الإتجاه الصحيح في بعض المجتمعات الإسلامية فلايزال هناك حاجة لروح الإحتجاج الجماعي المتحضر بالرغم من العلامات المشجعة أثناء الربيع العربي. فالتعبير عن الضغب من أفعال أو أقوال مسيئة شيء ,ان نتسبب في موت أو تدمير ممتلكات الآخرين يجب أن يشكل خط أحمر تفرضه المجتمعات المسلمة علي شعوبها, وهو الأمر الذي أصبح أكثر ضرورة الآن بعد الإطاحة بالنظم القهرية وإستبدالها بحكومات ممثلة للشعوب. فإدانة المواطنون الليبيون لمن شاركوا في مقتل أفراد بالقنصلية الأمريكية ببنغازي (الذين إنضم إليهم غالبية القادة السياسيين والدينيين في العالم العربي) تمثل علامة مشجعة علي أن العنف أصبح غير مقبول كوسيلة للتعبير عن الغضب. علي العكس وقع المرشح الرئاسي ميت رومني في نفس الخطأ في شجبه المتعجل لإدانة العاملين بالسفارة الأمريكية بالقاهرة للفيلم المسيئ. فتقليد حرية التعبير تعوق تحريم خطاب الكراهية إلا أن السلوك الإستفزازي يجب أن يسمي كذلك.

الشيء الواضح في هذه الأوقات أن حساسيات المسلمين لا تتحد مع المجتمعات الغربية والعكس صحيح. ربما عند تلك المرحلة من التاريخ يبدو الأمر كطموح زائد لتوقع غير ذلك. ولكن في هذا العالم الذي تنكمش مسافاته, نجد أن تجاهل حساسيات الآخرين يكون لها ثمن فادح. لسوء الحظ المقارنة بين الهجوم علي النبي, والتي يراه الكثير من المسلمين كفعل جارح, ونقد أقرانه بالأناجيل, الذي يعد أمر مقبول في المجتمعات الغربية, يساء تشخيصها. فمعظم الشعوب الغير غربية ربما تفشل في فهم لماذا تكون المحرقة أو الألفاظ العنصرية ضد السود أكثر قداسة وحماية من الرب في الغرب ولماذا يكون التعدي علي هذه المفاهيم حرية تعبير غير متسامح معها بالرغم من ذلك. ربما يستطيع الغرب رؤية بعض حساسيات المسلمين كناتج لتاريخهم الشخصي الذي يجب أن يستحق نفس الإحترام الممنوح للآخرين.

المشاهد التي نراها اليوم مرعبة . لهذا يجب علي الأشخاص الذين يتمتعون بود الآخرين أن يقدموا الدروس الصحيحة والعمل علي خلق مناخ للتسامح والإحترام المشترك لأمور قد لا تكون مفهومة تماماً للجميع. بالنسبة للغرب لم يعد من المقبول السماح بنشر الرعب من الإسلام خلال دوائر محترمة. أما عن المجتمعات الإسلامية فيجب أن يكون هناك إحترام لحرية التعبير وأن يحل التظاهر السلمي والذي قد يصاحبه مقاطعة اقتصادية ,محل صفات العقلية الغواغائية التي تحكم الكثير من ردود الأفعال التي عبر عنها المسلمين خلال السنوات القليلة الماضية. فهذه العقلية الغوغائية يتم استغلالها بواسطة عناصر كريهة داخل المجتمعات الإسلامية الذين يتبنون أفكار خطيرة وغير مقبولة عن الحرب الدائمة بين الإسلام وبقية العالم . مثل هؤلاء يقدمون عوامل مغذية للرعب من الإسلام في أرجاء العالم.

للأسف ليس هناك عصا سحرية تحول عالمنا إلي عالم يتمتع بتسامح واحترام متبلدل بين شعوبه. إلا أن جميع الأشخاص ذوي الفطرة والإرادة السليمة يجب أن يبذلوا كل ما يستطيعون للقضاء علي الرعب من الإسلام والحساسية المفرطة ضد الغرب إن لم يكن بشكل كامل فعلي الأقل حصرها علي هامش الحديث والسلوك المتحضر .

العربية نت

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016