.. بلى! إنھا خاتمة جیل ونھایة عصر! فلا جناح إذن في البوح!

... فھا ھو ذا فارس آخر یترجل! فارس لا كالفرسان، متمیز السیرة والأداء، والدور التاریخي!

ٌ محمد َّ ولد عابدین ولد شداد (بدن)... طفل یتیم من أسرة نبیلة نزحت ضمن أخریات من بادیة لبیرات بحثا عن المدرسة في انواكشوط، ذلك "الحي الساكن" الذي نزل بساحتھم فجأة على مرمى حجر (60 كلم) من مرابعھم!

َّ جاء الطفل إلى المدینة بعد أن ترعرع في البادیة على الفطرة ونھل من أخلاق السلف الصالح، وألم بأبجدیات حیاتھا الصعبة َ فھ وم َّرنھ على تحمل الصعاب.

قَّ َّ إلماما ھیأه ووطَنھ على الصبر في الملمات، وثَ شاءت الأسرة النازحة أن یتعلم طفلھا ویتوظف معلما أو كاتبا! وشاء الله لھ أن یلعب دورا آخر أكثر حیویة وتعقیدا وخطورة وتألقا وشرفا! دورا لم یسعفھ الوقت أو العمر أو العدة بالإعداد للاضطلاع بھ، وإنما اقتحمھ قسرا وابتسارا. ومع ذلك فقد فیھ نجاحا منقطع النظیر! سنوات قلیلة في مدرسة العدالة، وأخرى أقل في الثانویة الفنیة، ورحلة إلى أطار حیث الجبال الشاھقات، والواحات الباسقات، والدراجات الھوائیة، والتاریخ، ولقاء مع سمیدع.

... وھا ھو ذا ذلك الطفل یقف فجأة مساء السابع من فبرایر سنة 1966 َّ من بین رجال بعدد أصابع الید أعلنوا تحدي الاستعمار الفرنسي الجدید بجبروتھ واستلابھ، والانحطاط الإقطاعي بظلامیتھ وتعفنھ، لیضعوا البوصلة واللبنة الأولى التي بصمت موریتانیا إلى الأبد! فكانت قاعدة الاستقلال والحریة والعروبة والإسلام! منشور من نصف صفحة وزعوه في العاصمة ولكصر، أعلنوا فیھ رفضھم المطلق للاستعمار الفرنسي وللفرنسیة، وتشبثھم بالاستقلال والحریة واللغة العربیة والإسلام، ودعوا شعبھم إلى الإضراب في سبیل ذلك، فكان لھ مفعول سحري تلقف ما صنع الاستعمار وأعوانھ في 65 سنة، وأنار الدرب وفتح الآفاق على مصاریعھا! خاصة یوم ھبت شبیبة الوطن الرائعة من كل حدب وصوب بقیادة نفس الرجال، على وقع انتفاضة عمال ازویرات المجیدة، تضع معالم الطریق الوطني، وتمھده ببذل الغالي والنفیس في سبیل عزة ومجد ووحدة موریتانیا.

نعم. كان نفوذ السفارة الفرنسیة والأجھزة التابعة لھا في الدولة وجل الأطر والنخبة والقوى الإقطاعیة الحلیفة للاستعمار والقاعدة الفرنسیة في داكار قویا جدا یومئذ، ومكرسا في سبیل عرقلة تعلیم اللغة العربیة في المدارس وإلغاء قانوني إجباریتھا، ومنع انعتاق موریتانیا، وكبت إرادة الحریة لدى شعبھا وبعض ساستھا. وكانت دعوة المنشور والإضراب، رغم ما شابھما، ھما الفعل الوطني الشعبي الذي أزاح الضغط الاستعماري الرجعي عن كاھل السلطة الوطنیة الفتیة الھشة، ورجح كفة الوطنیة والإصلاح، وأتاح ترسیخ قواعد الدولة الوطنیة!

كانت تلك خطوة الفتى البدوي الأولى! وتلتھا خطوات وخطوات سوف نذكر بعضھا مثالا لا حصرا: یتبع إن شاء ا