الصفحة الأساسية > الأخبار > المطالب الفئوية في موريتانيا .. مستقبل غامض لأزمة متفاقمة

المطالب الفئوية في موريتانيا .. مستقبل غامض لأزمة متفاقمة

الثلاثاء 26 آذار (مارس) 2013  05:05

معهد العربية للدراسات -

مر الأسبوع الماضي في موريتانيا دون أن يحدث تأثيرا كبيرا في ذاكرة الموريتانيين باستثناء خبرين عابرين، أولهما هو إعلان الحكومة الموريتانية بتاريخ 21/03/2013 تحويل الوكالة الوطنية لدمج اللاجئين (الزنوج المطرودون سابقا من موريتانيا) إلى وكالة لمكافحة الرق وآثاره.

أما الخبر الآخر فهو تنديد حزب التحالف الشعبي التقدمي (أبرز ممثل لشريحة لحراطين) [1] بتجنيس عدد من المواطنين القادمين من إقليم أزواد في جمهورية مالي أو القادمين من إقليم الصحراء الغربية، ويشير بيان الحزب الصادر بتاريخ 19/03/2012 ضمنيا إلى أن المجنسين هم من الشريحة البيضاء، وهو ما يعني إمكانية التأثير على التشكيل الديمغرافي للسكان، كما يفهم من البيان.

ومهما يكن بشأن الوكالة الجديدة وتأثيرها على الواقع الحقوقي في موريتانيا أو ما يتعلق بالسجال المتلاحق حول " تجنيس الأجانب " فإن الخبرين السابقين يحتاجان وقفة تأمل باعتبارها وجها أساسيا للأزمة العرقية التي تعيشها موريتانيا منذ عقود، وقد عبرت تلك الأزمة عن نفسها بأوجه مختلفة وتمثلات متعددة.

وتسعى هذه الدراسة إلى كشف جوانب متعددة من ملامح تلك الأزمة المتفاقمة، عبر المعالم الأساسية:

- التركيبة الاجتماعية في موريتانيا

- أزمة عابرة للزمن

- التعليم .. زورق الأزمة العرقية

- الأزمة العرقية في خارطة السياسة

- واقع الأزمة العرقية وآفاق التعايش.

التركيبة الاجتماعية في موريتانيا

بين الصحراء والرمال الممتدة على طول الحدود الموريتانية المغربية الجزائرية والمالية، ونهر السنغال البارز حدودا مع السنغال والغرب الإفريقي اختط القدر للموريتانيين منزلا قديما، عرف بأسماء كثيرة منها الأرض السائبة والمنكب البرزخي، وقديما اعتبر العالم الموريتاني الشيخ محمد المامي أن بلاده " أرض فترة تقع بين العمالة الإسماعيلية (إشارة إلى المملكة المغربية في عهد سلطانها المولى اسماعيل) والعمالة البوصابية"[2] إشارة إلى مملكة بوصياب الزنجية التي نشأت على أراض واسعة من موريتانيا الحالية والسنغال ومالي وبين تلك السلطتين الإسلاميتين : العربية المغاربية، والزنجية الإفريقية نشأ المجتمع الموريتاني وقد تقسم في الغالب إلى مجموعتين كبيرتين هما:

1- العرب : بشقيهم البيض (البيظان ) والسود (الحراطين)

وقد توزع مجتمع العرب إلى طبقات مغلقة صارمة، أبرزها :

طبقة حسان : وهم العرب المقاتلون أهل الشوكة والسلاح

طبقة الزوايا : وهم أهل المحاظر والمعارف الشرعية، وقد عرفوا باعتزال الحرب والخضوع لسلطة الدين واستخدامه في إدارة الصراع والعلاقة مع بقية الطوائف.

وتقتسم الطائفتان الأوليان شؤون الدين والدنيا، والسلطة الزمنية والدينية، فيما تنحدر بقية المجموعات إلى قاع الطبقة المحتقرة أو المهمشة طبقة المعلمين: وتعني الصناع التقليديين، وهم اليد الحرفية التي يعتمد عليها المجتمع الموريتاني قديما رغم ما يعاملهم به من احتقار ودونية. إيكاون : الفنانون التقليديون وهم مجموعة أسر لا تنحدر من عرق ولا مجتمع قبلي موحد، تحفظ أمجاد القبائل وتعامل بالدونية أيضا في سلم الترتيب الطبقي.

طبقة الحراطين : وتعني السود الناطقين بالحسانية، وهم في الغالب مجموعات زنجية أو سكان أصليون قهرتهم فترات السيبة والاضطراب وتعرضوا للاسترقاق، والاستخدام.

أما في مجتمع الزنوج، فتعيش في موريتانيا ثلاث قوميات زنجية تملك كل واحدة منها استقلالا ثقافيا على مستوى اللغة والتقاليد، واستقلالا عرقيا عن الأخرى وهي

1- البولار : أو الفلان وهم أكبر الشرائح الزنجية في موريتانيا ويتحدثون "اللهجة البولارية"، وهم أكثر الشرائح الزنجية مصادمة مع شريحة البيظان، كما أنهم أكثر الشرائح الزنجية أيضا تضررا من ماضي الأزمة العرقية في البلد.

2- الوولف : وهم أقلية تقطن المناطق الجنوبية من موريتانيا وترتبط بشكل كبير بالسنغال حيث قسم النهر الحدود بين موريتانيا والسنغال لكنه لم يستطع تقسيم الأواصر الاجتماعية ولا حتى العلاقات والاستيطان.

3- الصوننكي : وهم بقايا المواطنين الأصليين الذين أقاموا ممالك وأمبراطوريات في منطقة موريتانيا ومالي، وهم شريحة مغلقة، تخضع لتقاليد اجتماعية صارمة جدا.

ولم تستطع عوامل التحديث أن تقضي على هذه التقسمة فلا يزال المجتمع الموريتاني قبليا وطبقيا بشكل كبير، ولا تزال الأراضي مملوكة للقبائل، إضافة إلى ترسخ العادات المتعلقة بالتمايز الطبقي، فلا تزال الشرائح مغلقة على نفسها، لا تقبل في الغالب بالتزاوج خارج إطارها المعهود. ويمكن القول إن الفئتين العربية والزنجية تملكان امتدادا مع دول الجوار، فأغلب سكان الشرق والشمال الموريتاني يملكون امتدادات قبلية واجتماعية مع مجموعات سكانية في المغرب والجزائر ومالي، كما أن الزنوج من سكان الجنوب يملكون ذات الامتداد مع المجموعات السكانية في السنغال ومالي أيضا.

وقد ظهرت هذه الامتدادات بقوة، حيث كان أحد الزنوج الموريتانيين وزيرا للمالية في حكومة الرئيس الأسبق المختار ولد داداه، فيما كان شقيقه وزيرا في حكومة السنغال في عهد رئيسها ليوبولد سيدار سنغور، فيما كان الموريتاني الدي ولد سيدي باب رئيسا للبرلمان المغربي، وكان شقيقه أحمد ولد سيدي باب وزيرا في حكومة الاستقلال الموريتانية، ورئيسا حاليا لأحد أحزاب المعارضة، وفي نفس الصدد انتقل المدير السابق للميناء في موريتانيا حماده ولد الدرويش إلى المغرب ليكون أحد أهم المواطنين الصحراويين العائدين إلى سلطة العرش المغربي، فيما ينحدر مسؤولون سنغاليون كثر من بينهم القائد العام لأركان الجيش السنغالي من أصول موريتانية، وكذا الأمر في مالي ودول إفريقية أخرى.

وأمام هذا التشابك تبقى الحكمة والمسؤولية في إدارة الملف العرقي في موريتانيا الغائب الأبرز في التعامل السياسي والاجتماعي مع هذا الملف من قبل أطراف الصراع السياسي والإيديولوجي في موريتانيا.

ويمكن القول إن الأزمة العرقية في موريتانيا ليست مجرد أزمة واحدة، فهي أزمات متعددة، تعدد التمايز الطبقي في موريتانيا، حيث سجل التاريخ الموريتاني وبشكل فج احتكاكات متواصلة وعنيفة بين شريحتي العرب "البيظان" والزنوج، قبل أن تنفجر الأزمة التي ظلت مكتومة خلال سنوات كثيرة، وهي أزمة الصراع داخل مجتمع البيظان، ضمن مطالب "لحراطين" أوالأرقاء السابقين، برد المظالم التاريخية المتعلقة بالاسترقاق والتمييز الاجتماعي والغبن والانفراد بالسلطة من قبل شريحة البيض، وفق أدبيات الحركات السياسية الممثلة لتيار "الحراطين".

الزنوج ...الأزمة الدائمة

لقد بدأت مظاهر الأزمة بين العرب والزنوج قبل الاستقلال بل منذ عقود، حيث نشبت بعض الحروب والمناوشات بين المجموعات العربية والزنجية، خلال التاريخ القريب والمتوسط لموريتانيا، رغم مظاهر كثيرة للتعايش الإيجابي، إلا أن بوادر الصراع الأكثر عمقا جاءت مع الاستقلال، وعبر بوابة السياسة والهوية، وقد كانت أحداث 1966 أبرز مظهر للصراع، حيث انتفض الطلاب الزنوج رفضا للتعريب الذي أقرته حكومة الاستقلال برئاسة المرحوم المختار ولد داداه، ولقد ساند الأطر والمثقفون الزنوج حركة الطلاب وأصدر هؤلاء بيانا شهيرا عرف ببيان مجموعة 19 إطار وكان من فقرات ذلك البيان الساخن ما يلي

"إن المجموعة السوداء ملتزمة - بصفة لا رجعة فيها- باستعادة حريتها وكرامتها كاملتين، وباختيارها الحر لثقافة ونمط حياة منسجمين مع الحضارة الزنجية الإفريقية، وبالتطلع إلي المستقبل والتنمية المنسجمة للإنسان، وفي نفس الوقت مقتنعة بأن استمرار النظام في سياسته سيقود حتما إلي الفوضى والحرب الأهلية، فإننا نحن الموقعون أدناه:

- نعلن رفضنا للإجراء القاضي بإلزامية العربية في التعليم الأساسي والثانوي

- نتعهد بالكفاح لإفشال أية محاولة للاضطهاد الثقافي ولقطع الطريق أمام التعريب القسري"[3] لكن نار الأزمة لا تخفت حيث أدى اندماج تنظيمات زنجية هي "اتحاد الديمقراطييين الموريتانيين" (UDM) و"الحركة الشعبية الإفريقية لموريتانيا" (MPAM) و"منظمة الدفاع عن مصالح الزنوج الأفارقة في موريتانيا (ODINAM) إضافة إلى "حركة الطلاب والتلاميذ الزنوج" (MEEN)، إلى إعلان حركة " المشعل الإفريقي" المعروفة بافلام.

وقد أثارت المنظمة ببياناتها وتهديدها الساخن لما تسميه " البربر والبيظان المحتلين لأراضي الزنوج" جدلا كثيرا داخل الساحة الموريتانية، بلغ أشده مع صدور بيان "إعلان الزنجي الموريتاني المضطهد" ولقد كان البيان بوابة الأزمة العنيفة بين الزنوج ونظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، حيث نفذ الأمن عمليات اعتقال واسعة وشاملة ضد الأطر المدنيين والعسكريين من الزنوج وخصوصا من شريحة البولار.

وسيتواصل مسلسل الأزمة، مع محاولة ضباط الزنوج تنفيذ انقلاب عسكري وتصفية دموية – وفق الاتهام الرسمي - سنة 1987، ليتفاقم الأمر لاحقا بعد إعدام 3 من الضباط المذكورين بأحكام قضائية وإعدام أكثر 27 عسكريا زنجيا آخر في ذكرى استقلال البلد سنة 1987 فيما عرف لاحقا بمجزرة إينال، قبل أن تندلع أحداث الأزمة بين موريتانيا والسنغال في العام 1989 والتي راح ضحتيها مئات الموريتانيين قتلا وحرقا على يد متطرفين وعسكريين سنغاليين، إضافة إلى أعداد مماثلة من السنغاليين والمواطنين الزنوج في موريتانيا، لكن المظهر الأبرز لتلك الأزمة، هو إقدام نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز على طرد الآلاف من الزنوج إلى خارج موريتانيا أو فرار أغلب هؤلاء إلى مخيمات إيواء داخل الأراضي السنغالية.

وإذا كانت السلطات الموريتانية قد اعتذرت رسميا لأولئك المواطنين المطرودين على لسان الرئيس الأسبق سيدي ولد الشيخ عبد الله، كما أدى الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز صلاة الجنازة على أرواح ضحايا تلك الحقبة، وشهدت السنوات الست المنصرمة عودة آلاف اللاجئين إلى مواطنهم الأصلية في الولايات المطلة على النهر السنغالي داخل موريتانيا.

غير أن الأزمة تصاعدت من جديد وبشكل أكثر سخونة وحدة مع ظهور حركة " لا تلمس جنسيتي " الزنجية الشبابية بقيادة الشاب وان بيران.

ولقد ظهرت هذه الحركة ذات الانتشار الواسع و"المخيف" مع بداية الإحصاء السكاني الجديد الذي تفرضه السلطات الموريتانية منذ حوالي سنتين، محتجة على ما تعتبره " تهميشا وإقصاء متعمدا" للزنوج الموريتانيين في مقابل تجنيس " بيض " غير موريتانيين قادمين من الصحراء" وقد شهد العامان المنصرمان أحداث عنف قوية في العاصمة نواكشوط إضافة إلى بعض مدن الداخل الموريتاني، ومن أبرزها أحداث جامعة نواكشوط حيث دخل الطلاب العرب والزنوج في صراعات قوية أسقطت عددا معتبرا من الجرحى، كما سقطت جرحى آخرون في مواجهات بين الأمن الموريتاني والشباب الزنوج الموريتانيين.

وإذا كانت أغلب الحركات والأنشطة الزنجية خرجت إلى العلن كردة فعل إلا في المقابل حملت في طياتها مطالب كثيرة تتعلق " بالهوية الإفريقية للزنجي الموريتاني"ومطالب أخرى متعلقة بتقسيم الثروة والسلطة.

وإذا كان أغلب الزنوج اليوم يساندون الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، وذلك من خلال حزب المعاهدة من أجل التغيير برئاسة القيادي التاريخ لحركة المشعل الإفريقي صار ابراهيما، لكن ذلك لم يمنع ذلك الحزب وقيادته – مثل أغلبية المثقفين الزنوج – من مساندة حراك الشباب الزنجي المنخرط في حركة " لا تلمس جنسيتي " وإعادة طرح المطالب العرقية والشرائحية المتعلقة ب

1- محاكمة المسؤولين عن إعدام وتشريد الزنوج الموريتانيين خلال السنوات الماضية بما فيهم الرئيسان السابقان معاوية ولد سيدي أحمد الطايع والعقيد اعل ولد محمد فال.

2- دعم الخصوصيات الثقافية للزنوج الموريتانيين على مستوى تدريس اللهجات الوطنية والاحتفاء بالتاريخ والتراث الزنجي

3- تقاسم الثروة والسلطة وإنهاء "احتكار " الأقلية البيضاء للمال والسلطة، وفق أدبيات الزنوج الموريتاني. التعليم ... زورق الأزمة العرقية

يمكن الجزم أن نظام التعليم في موريتانيا سدد ضربات موجعة للوحدة الوطنية في ذلك البلد الموحد دينيا، والمفرق بطبقاته ولهجات سكانه، ولقد مثل ارتباط مناهج التعليم بالقرار السياسي وتعرضها لانقلابات مماثلة للانقلابات العسكرية في موريتانيا زورقا أساسيا عبرت عليه الأزمة العرقية في موريتانيا وتوغلت في النسيج الاجتماعي

ويذهب المفتش العام السابق للتعليم في موريتانيا الأستاذ محمد لكبيد ولد حمديت إلى أن "الإصلاحات المتتالية للتعليم " انتقلت من مرحلة التفريق بين "الشٌعب العلمية" إلى مرحلة التفريق بين "الشعب"[4]

ولقد انتهجت الحكومات الموريتانية إصلاحات تعليمية، كانت بالغة الخطر على الوحدة الوطنية، حيث تراجعت الحكومة نهاية الستينيات عن فرض التعريب الشامل إلى ترسيم الازدواجية الاختيارية، خلال عقد الثمانينيات، وهكذا نشأ جيلان موريتانيان أحدهما مستعرب، والآخر افرنكفوني أخذ ثقافته ومعارفه من اللغة الفرنسية، كما هو الحال بالنسبة لغالبية الزنوج الموريتانيين، ولقد أقامت اللغة حاجزا قويا بين القوميات الموريتانية، ضاعف أزمة المظالم التاريخية، وواقع التمايز العرقي.

ويمكن القول إن مظاهر التمايز العرقي في العاصمة نواكشوط كبيرة جدا، حيث باتت المقاطعات الجنوبية للعاصمة، محافظات خاصة بالزنوج وفي أحسن الأحيان، يقطنها بعض أفراد الشريحة العربية السمراء "لحراطين"، فيما تمتاز بقية المقاطعات بسكانها من شريحة البيظان. ومهما يكن فإن الأزمة الحالية في موريتانيا مرشحة لكثير من التفاقم، دون أن يعني ذلك استحالة التعايش، الذي يجد سنده في مؤشرات عديدة، أبرزها

- وحدة الدين المشترك، رغم الاتهامات التي يوجهها نشطاء الزنوج ولحراطين إلى العلماء الموريتانيين "برعاية العنصرية وأسلمة الظلم"

- اتساع دائرة المعتدلين من مختلف الشرائح الموريتانية والوعي المتنامي بضرورة التعايش السلمي والمصارحة سبيلا إلى المصالحة، موازاة مع التنامي المفرط للمطالب العنصرية والاستهلاك المتزايد للخطابات الفئوية والعنصرية. الرق .. وجه آخر للأزمة العرقية

وإذا كانت أزمة "الزنجي الموريتاني" مظهرا بالغ التأثير من مظاهر الأزمة العرقية في موريتانيا فإن الرق ومخلفاته وواقعه اليوم بات السؤال الأكثر إلحاحا على الموريتانيين اليوم، في إطار نضال عناصر وقيادات من شريحة لحراطين " ضد ما يعتبرونه " الاستعباد التاريخي والظلم الحالي والتهميش المتواصل لشريحة لحراطين"

ويمكن القول إن الرق يملك جذورا عميقة الألم في المجتمع الموريتاني، فطوال قرون عديدة كان أغلب السكان السود الناطقين بالحسانية عبيدا في الغالب لأسر من الشريحة البيضاء، أو عبيدا في حالات قليلة لنظرائهم السود.

وقد أنتجت ظاهرة الرق في موريتانيا وضعا بالغ التعقيد، يعتمد على قاعدتين

- الاتساع الديمغرافي لقاعدة لحراطين، والتزايد الكبير لأعداد تلك الشريحة.

- اتساع قاعدة الفقر والجهل في صفوفهم، حيث يحتلون نسبة عالية من هرم الفقر الذي كاد أن يوحد الموريتانيين تحت عباءته الشاحبة.

ولقد ارتفعت وتيرة الفرار أو التمرد على نير العبودية منذ عقود، بل قبل الاستقلال الموريتاني ولقد كانت "آدوابة" المنطلق الأول لتلك التمردات الرافضة، فيما مثل الفرار إلى السنغال ومالي أسلوبا مناسبا أيضا للفرار من نير العبودية، ولقد أنشأ الفارون من تلك العبوديات، قرى وأطرا اجتماعية عرفت لاحقا باسم " جامبور" أو "لبزوكة"[5]

ومع أن فرنسا التي استعمرت في موريتانيا أكثر من 50 سنة، لم تكن جادة في محاربة الاسترقاق والعبودية، نظرا لرغبة الفرنسيين الأكيدة في الاستفادة من الاستقرار الطبقي الذي سيؤدي تغييره إلى ثورات غير محسوبة[1].

ومع بداية الدولة الوطنية، عاد ملف الرق من جديد إلى الواجهة، ولكن عبر تعميمات وقرارات سرية تطالب الولاة والإداريين بمحاربة الرق وبعدم المساعدة على تثوير الطبقات المسترقة حتى لا يؤدي ذلك إلى فوضى عارمة في النظام الاجتماعي فضلا عن النصوص الدستورية الصادرة في البلاد خلال الأعوام 1958 و1691 والتي تنص على المساواة التامة بين كل الموريتانيين. [6] ومع منتصف السبعينيات ستظهر أولى نواة حركية للشباب والأطر المنحدرين فيما عرف بحركة الحر التي أنشأتها عناصر من شريحة لحراطين من أبرزهم الرئيس الحالي للبرلمان الموريتاني مسعود ولد بلخير، ورئيس جمعية نجدة العبيد الحقوقية أبو بكر ولد مسعود والوزير السابق محمد ولد الحيمر، ولقد كان القادة الأول لتلك الحركة مجموعات شبابية من الفقراء الكادحين حملت مطالب شريحة لحراطين.

ثراء في القوانين ..وفقر في التطبيق

ولقد واجهت السلطات العسكرية بداية الثمانينيات حركة الحر بشكل شرس، حيث حاكمت أغلب قادتها محاكمة عسكرية في مدينة روصو، لكنها أفرجت عنهم لاحقا إما بالبراءة أو أحكام مخففة.

وطوال السنوات المنصرمة ظل سؤال الرق والتقارير الحقوقية التي تتهم موريتانيا بالتغاضي عن ممارسة الرق وتشير إلى جيوب للعبودية في مختلف المناطق الموريتانية تلاحق الأنظمة المتعاقبة على موريتانيا وفي المقابل ظلت أغلب الأنظمة تنفي أي وجود للعبودية وتلاحق بالسجن والمضايقة من يتحدث عن حالة استعباد

ومع ذلك فقد تمتعت موريتانيا بترسانة قانونية ضخمة لمواجهة الرق سواء تعلق الأمر بالمراسيم والتقريرات الفرنسية التي سبقت استقلال البلد والتي ورثتها المنظومة القانونية الموريتانية أو عبر مصادقة موريتانيا على اتفاقيات دولية عديدة تمنع المتاجرة بالبشر أو استرقاقه، إضافة إلى نصوص الدساتير الموريتانية المتعاقبة الصريحة في المساواة بين كل شرائح الموريتانيين ومركزية الحرية والمواطنة، لكن التقنين المناوئ للرق سيتعزز لاحقا بقانون تجريم العبودية الصادر في العام 1983، دون أن ترافقه أي مراسيم تطبيقية أو سياسة تمييز إيجابي لصالح الفئات المتضررة.

ومع سقوط الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع ودخول البلاد مرحلة جديدة من "الانفتاح الديمقراطي" عادت مطالب "لحراطين" إلى الواجهة من جديد، ورغم الجو الإجماعي على ضرورة مواجهة الرق وهو ما تجلى في إجماع نواب البرلمان في العام 2007 على إجازة قانون مكافحة الرق، وتنصيب رئيس من شريحة لحراطين على رأس البرلمان (ضمن صفقة سياسية محضة)، إلا أن تلك المطالب الحقوقية عادت وبشكل أكثر شراسة وقوة، مع بات يعرف بمبادرة الانعتاق لتحرير حراطين موريتانيا "‘إيرا" ولقد تميز خطاب حركة "إيرا" بتهديده الصريح بالانتقام من " البربر والأسياد الإقطاعيين" وفي حالات كثيرة دخل أنصار "إيرا" في مواجهات مع الشرطة أو مواطنين آخرين مناقضين لهم في التوجه الحقوقي.

ولقد تفاقمت وضعية المطلب الحقوقي عند إيرا بعد إقدام زعيمها بيرام ولد اعبيدي على حرق كتب مهمة في الفقه المالكي، معتبرا أنها تمثل بوابة النخاسة وفقه الاستبعاد، وقد لاقت تلك "المحرقة "ردة فعل غاضبة جدا من الشعب الموريتاني وسلطاته، التي بادرت بسجن بيرام قبل أن تفرج عنه لاحقا، لينتهج خطابا أكثر تسامحا مع السلطة، وأكثر حدة تجاه المعارضة والتيار الإسلامي (أبرز خصوم السلطة) بشكل خاص. ويمكن القول إن الطبعة الجديدة من مناضلي لحراطين، هي الأكثر شراسة وخطورة في آن واحد، والأكثر قدرة في المقابل على تحريك الساحة الوطنية وهز أغلب الثوابت المتعلقة بتاريخ الاسترقاق وحاضره في البلد، إضافة إلى تجاوزهم الواضح للقيادات والرموز التاريخية لشريحة الحراطين سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو على مستوى الخطاب والخط السياسي.

ويركز قادة إيرا التي يقدمها أنصارها على أنها "حركة حقوقية سلفية" على الانتقاد اللاذع والمتواصل للفقه الإسلامي السائد في موريتانيا وللفقهاء "العرب" بشكل خاص، ويركز رئيس منظمة إيرا بيرام ولد اعبيدي هجومه الشرس والمتواصل على كل زعيم التيار الإسلامي المعارض الشيخ محمد الحسن ولد الددو، حيث يصفه بعبارات نابية وجارحة، إضافة إلى الشيخ حمدا ولد التاه رئيس رابطة علماء موريتانيا ومفتي الجمهورية أحمد بن لمرابط. وبين الحين والآخر يعتبر بيرام أن شريحة العرب "البيظان" ستكون أمام خيارين لا أكثر، وهما المراجعة السريعة لأخطائها تجاه "لحراطين" والتراجع عن التحكم في السلطة والثروة، وإلا فإنهم قد يواجهون مصيرا مشابها لمصير العرب في "زنجبار"[7]

العرق في خارطة المشهد السياسي

استطاع الخطاب الحقوقي وقضايا الفئات الاجتماعية أن تحجز مكانا هاما في أدبيات القوى السياسية والحركية في موريتانيا منذ فترة، لكن ذلك لم يمنع لحد الآن من ظهور أحزاب فئوية كاملة أو في أحسن الأحوال تجعل من المطالب الشرعية خطابها الأساسي وسؤال وجودها المركزي.

فعلى مستوى الزنوج وخصوصا شريحة البولار، يوجد أكثر من حزب سياسي خاص بهذه الشريحة ومن أبرز أقطابها السياسيين

- 1- حزب التحالف من أجل العدالة/ المعاهدة من أجل التغيير AJDMR، ويرأسه القيادي البولاري صار إبراهيما، وقد جمد عضويته في الأغلبية احتجاجا على تعامل السلطة مع الشباب الزنوج خلال تظاهرات منظمة "لاتلمس جنسيتي، وقد استطاع الحزب المذكور استقطاب أغلب أصوات الزنوج الموريتانيين.

2- حزب الحركة من أجل إعادة التأسيس : بقيادة البرلمان كان حاميدو بابا، ويهتم حاميدو المنسحب من المعارضة باتجاه الأغلبية بمطالب شريحته الزنوج، حيث انتقد قبل فترة مدارس التميز التابعة للجيش الموريتاني معتبرا أنها تقصي الطلاب الزنوج.

4- حركة لا تلمس جنسيتي : الشبابية بقيادة الشاب الزنجي وان بيرام، وهي حركة حديثة النشأة يتبع لها الكثير من طلاب الجامعة والثانويات في موريتانيا وتتميز بقدرتها الفائقة على التعبئة وخطابها المطلبي الساخن، إضافة إلى ظهور بعض الممارسات العنصرية من ناشطيها خلال التظاهرات، وتعرضها للقمع المتواصل على أيد الأمن الموريتاني.

أما على صعيد شريحة لحراطين فإن هذه الشريحة ممثلة بقوة في أحزاب سياسية 1- حزب التحالف الشعبي التقدمي : برئاسة الزعيم التاريخي لحركة الحر ورئيس البرلمان الموريتاني مسعود ولد بلخير (حوالي 70 سنة)، وقد تحالف ولد بلخير بعد حظر حزبي (العمل من أجل التغيير، والمعاهدة من أجل التغيير) مع الناصريين العرب في حزب التحالف الشعبي التقدمي، فيما عرف حينها "بزواج الشعبية والشرعية"، غير أن الحزب يواجه أزمات بنيوية عميقة، كما يتهم رئيسه – من قبل قطاعات واسعة – من شريحته، بالتخلي عن مطالبهم، وتحصيل المناصب والثراء على حسابهم.

2- حزب المستقبل : برئاسة الأستاذ محمد ولد بربص، وهو حزب معارض أسسه خصوم ولد بلخير والمنسحبون من حزبه، ولا يزال الحزب خالصا لشريحة لحراطين، كما يتهتم بشكل أساس بطرح قضاياهم ضمن معارضته القوية لنظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز.

3- المبادرة من أجل الانعتاق/إيرا : برئاسة بيرام ولد الداه ولد اعبيدي وتوصف هذه الحركة من قطاعات واسعة من الموريتانيين بأنها حركة رفض متطرفة، وتنشط الحركة بشكل قوي ضد ما تعتبره التهميش والاستبعاد القسري للحراطين وتهدد بشكل دائم بالانتقام وإنهاء سيطرة "البربر والعرب" على السود، ويمكن اعتبار هذه الحركة رغم حداثة نشأتها الصوت الأكثر جلجلة في المشهد الفئوي في موريتانيا، باعتبار انتشار خطابها، وتحطيمها لأغلب المسكوت عنه، إضافة إلى جرأتها المتزايدة في انتقاد الخطاب الديني السائد وحملتها القوية ضد العلماء الموريتانيين.

4- حركة الحر : وهي حركة سرية نشأت نهاية عقد السبعينيات، تصدر عنها بيانات دورية، ولم تعلن الحركة لحد الآن عن رئيسها الحالي ولا هياكلها التنظيمية، ويرجح أن تكون هي الإطار الجامع لأغلب التنظيمات السياسية التابعة للحراطين، وترفع الحركة المذكورة مطالب ثقافية للحراطين وتدعو إلى ضرورة الاعتراف بوجود الرق وبالمظالم التاريخية ضد ضحاياه، إضافة إلى الاعتراف بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية للحراطين، وتنتقد ضعف تمثيلهم في دوائر الحكم ومؤسسات الجيش والقضاء ودوائر المال والأعمال

5- منظمة نجدة العبيد : وهي حركة حقوقية برئاسة بوبكر ولد مسعود وتهتم بشكل خاص بالتصدي لحالات الاستعباد ومقاضاة من يتهمون بممارسة الاسترقاق.

5- آفاق الأزمة العرقية

يمكن القول بشكل جازم إن الأزمة العرقية في موريتانيا أزمة متصاعدة، وأن الموريتانيين اليوم أكثر شعوب المنطقة، استهلاكا للخطابات العنصرية، ومهما يكن فإن عوامل كثيرة ستغذي جو الكراهية المتفاقم بين شرائح الموريتانيين أبرزها

1- الشحن العنصري المتواصل من أغلب المناضلين لتحقيق مطالب الفئات الاجتماعية في موريتانيا. 2- تفاقم التدهور التعليمي، وتفاقم سيئات التمايز العرقي عبر الاصطفاف الثقافي والسياسي والإيدولوجي.

3- الفقر الشديد التي تقبع فيه أغلب الشعب الموريتاني وبخاصة شريحة لحراطين، مما يولد نقمة دائمة على الدولة التي يختطفها "الإنسان الأبيض" وفق أدبيات المناوئين للرق.

4- فشل السياسات التنموية وانتشار الفساد في دوائر الحكم الموريتاني والتعامل السياسي الانتقائي من الملف الحقوقي والفئوي وتحويله من مشغل وطني عام إلى ملف سياسي بيد السلطة والحركات السياسية، يخضع للمزايدة والاستخدام السياسي.

5- إمكانية تورط جيران البلد في تحريك الملف الحقوقي في موريتانيا بفعل الامتدادات الاجتماعية للشرائح المكونة للمجتمع الموريتاني في أغلب دول الجور.

ومع ذلك تبقى سلطة التنمية، ويد القانون الأداة الأكثر قدرة على تجاوز الأزمة العرقية في موريتانيا، ذلك أن الحيف الاجتماعي والمظالم التاريخية، رغم خطورتها، تبقى قابلة للتجاوز مالم تتخذ من الفقر والجهل جناحي للتحليق نحو مستقبل مجهول.

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016