الصفحة الأساسية > الأخبار > رحلة ممتعة إلى قرية "لكران"/ الأستاذ إسلمو ولد آحمد سالم

رحلة ممتعة إلى قرية "لكران"/ الأستاذ إسلمو ولد آحمد سالم

الأربعاء 8 كانون الأول (ديسمبر) 2021  23:02

(1)

تدفعني إلى لكران نوازع بعضها قديم و بعضها حديث ، و لكن حديث الناس عن جمال القرية ، و عن عمدة "لكران" ، سيدة لعصابة القوية ، يجعلني أكثر تلهفا لقراءة الواقع ، و الإطلالة من نافذة التاريخ ، و قراءة جماليات الأرض و العادات و الناس ...

بعد يوم شاق من تحضير السفر ، و مراجعة اليابانية ، انطلقنا في حدود القيلولة في اتجاه الجنوب الغربي ، حيث يتوجب علينا فطع مسافة 45 كلم على طريق رملية وعرة ، بين تموجات الكثبان التي تتخلل الأشجار، و سهول بها احراش تتخللها أشجار السلم (التمات) و الطلح و السدر و السرح(آتيل) و المرخ (تيتارك) و المسيم(تيشط) و الكلاكل(اندرن) و السنط(آمور) بكثافة، و تغطي أرضيتها أعشاب الحسنكيت (إنيتي) شديدة الحماية ...

كنا نتعقب سيارة مرسيدس متهالكة لتدلنا على الطريق ، و كنا نخوض غمار عمليات صعود و هبوط ، و إقلاع و نزول مريعة، و في تضاريس متعددة المعطيات ، و منطقة رعوية كثيفة الأشجار، و الحشائش و الأبقار، و مناظر جميلة ، و أرض تعود سكانها على عزة النفس ، و النوال الطبيعي المتوارث ....

على مسافة 15 كلم من كيفة تقع قيعة "اكريكط" ، و هي منخفظ يحتفظ بالمياه لفترة طويلة ، و هو ملتقى طياش الإبل و الأبقار، و تحف به الأشجار.

لاحظت أن المزارعين الذي يزرعون جنبات البحيرة يمعنون في قطع الأشجار على الطريقة القديمة التي كانت سائدة ، حين تقام الحظائر بالأشجار ، و استغربت كيف لحماية الطبيعة و عمدة البلدية التي تتبع لها التامورت أن تسكت على هكذا أفعال شنيعة ...

كان مؤشر حرارة اليابانية يتصاعد ، لأن سيارة الدليل تحاكي السلاحف ، و كانت الطريق الرخوة تنذر بابتلاع العجلات ، فعمدت إليها و نقصت حمولتها من الرياح ، فعندنا في الفيزياء أنه إذا كانت القوة ثابتة فالضغط يتناسب عكسا مع المساحة المعرضة للقوة ، إضافة إلى المرونة التي تمتص جزءا من القوة .

..... (2) ...

مع ارتفاع حرارة الشمس ، و ارتفاع مؤشر الحرارة في اليابانية ، و حركة الهوينى التي تسير بها سيارة دليلنا ، انغرست عجلات السيارة في الرمل و توقفت عن السير ، بل إن المحرك توقف عن الدوران ، و لعلها فرصة لاستجماع القوى و تبريد المحرك ، و تغيير المسار إلى طريق أكثر أمانا، و لعل هذا ما ينبغي ل"لمسار" أن يفكر فيه ..

كان علينا أن نقطع "بطحة رأس الطارف" الرخوة ، و قد أثار انتباهي جمال الاسم ، و لست أعلم هل الاسم من "طرف العين" أم هو من "الطارف" التي تعني الجديد ..

بعد رأس الطارف قررت عدم التماشى و زحف المرسيدس ، فتجاوزتها مع الطريق ، و هم يسمون آثار عجلات السيارات هنا اسما لم أعرف مما اشتق و هو "الخل" ، بفتح الخاء.

دخلنا القرية من الشرق ، فظهرت بيوتاتها المبعثرة بين الاشجار و الأحراش، و كان المدخل رائعا بكلما تحمله العامة من معنى ، ففي حين ترقد المياه و الاعشاب المخضرة على أديم الأرض تتعانق أشجار (أزكلم) فوق المارة ، فقلت لو أن الناس استثمرت في هذه الأرض الخصبة ، و أقامت مشاريع لإنتاج الخضروات، لما انتبه الناس و ما فطنوا لإغلاق معبر "الكركارات"، و لما كانت هناك ازمة طماطم . و لا بصل ..

رغم تواضع المباني ، و عدم انتظامها، و انتشار "المرحان"’بين المنازل ، إلا أن بساطة الحياة و أريحية الناس تشعرك بقدر كبير من الطمأنينة و الارتياح ..

تقع القرية في موقع جميل ، ففي حين تحيط بها الجبال من الشمال و الغرب ، يمتد كثيب مرتفع جنوبها ، و لا يجد الداخل إليها غير المدخل الشرقي الذي تقع البحيرة عند نقطة العبور منه نحو لقرية، و تمتد البحيرة شمالا ، و تفصل بين القرية و الكدى الشمالية اقتطاعات ريفية، إقيمت بها منتجعات للحيوانات و سدود ، و على امتداد المنخض الذي يفصل القرية و الكثيب الجنوبي تمتد واحات النخيل و الحدائق.

موقع جغرافي جميل ، و منطقة رعوية غنية بالاعشاب و الأشجار، مياه عذبة أثار انتباهي رقتها ، و أعداد كبيرة من الأبقار و الإبل ، و لم ألاحظ تواجد الأغنام، و قد قيل لي إن الأغنام أرسلت هذه الفترة لما يعرف با"لكرص" ، و للكرص قصة مع ولد أعمر ولد أعل و الشور الذي "شوهد" به و أصبح منطلق "أبياظ" كر...

.... (3) ..

وصلنا وقت صلاة الظهر ، و لن أحدث عن مستوى الاستقبال و لا حفاوته، فهي سجية عرفت بها الناس هنا عبر التاريخ ، و لكن المثير هو المسحة المدنية التي طبعت ذلك ، من حيث هدوء المكان و مستوى الضيافة و الأثاث و الأدوات..

مع ساعات المساء الأولى تبدأ حياة أخرى في الدبيب ، فقد بدأت الأبقار تزحف نحو المنازل ، و ملأ خوارها الأفق، و لا تخطئ عينك عجلا يندفع نحو أمه ، و صغارا يستمتعون بالمشهد ، و حركة "التاديت" و "إززاتن" في مشهد ممتع يحكي حياة عاشها أغلب الموريتانيين ، و لا يزالون يرون المتعة فيه وحدها..

بعد صلاة المغرب ، تكشف الليل المقمر ، تحت بدر ليلة تمامه ، عن عرس في القرية، فقد ملأ أزيز الرصاص الأفق، مخللا بالزغاريد و منبهات السيارات، و تقاطر الناس نحو المكان، و يبدو من الحفل أن "النيفاره" هي سيدة الموقف ، و على تلك النغمات الجميلة و "الأشوار" التقليدية تمايلت الأجسام و الأنفس، و انغمس الناس في أجواء الفرح و الحبور، في مظاهر بسيطة و عفوية ، لكن تلتزم بالذوق العام بدرجة كبيرة ..

ما يثير الانتباه في "لكران" هو هذا المجتمع الصنهاجي الأصيل الذي طوع الزناد، و عرف بالشدة و البأس، كيف يحتضن طبيخة من مختلف مجتمعات البلد، تحتفظ كل أسرة فيه بانتمائها و خصوصيتها، و "ميسم" مجتمعها، و قيمها ، لكنها تدخل الإطار العام و تحس بإحساسه ، و تشعر بالانتماء له ، و منها العلماء الأجلاء و أصحاب المال و الجاه ، و رجالات المجتمع الفاعلين..

بلدية "لكران" تديرها سيدة لعصابة القوية العالية منت منكوس، و هي أمينة عامة لوزارة، و يختلف الناس هنا في تقييم أدائها، كما يختلفون في حكايا الطريقة التي وصلت بها للمنصب، لكنها حاضرة في كل التفاصيل بالتناول، تثمينا و انتقادا ، و لعل قضية الاصطفاف السياسي داخل السلطة كانت ديدنا عند الأنظمة حتى يتم إلهاء الناس عن مشاكلهم ..

..(4)....

كنت على موعد مع حمى شديدة مع صلاة العشاء ، كانت بوادرها قد انطلقت و نحن في كيفة ، و كانت درجة الحرارة شديدة و آلام في الرأس و اللوزتين، و فبت في حالة شبه إغماء طوحت فيه الأخيلة إلى كل العوالم، مع كل أنواع المخلوقات ، مع الإنس و الجن ، و المخلوقات الفضائية و الخيال العلمي ، و المغامرات و الأحاجي، و قد خلت أن رأسي تضاعف وزنه ، و أن طريق البلع قد سدت تماما.

في الصباح عدت للواقع و بادرت لأخذ مخفضات للحرارة، لأن هناك مشهد يجب ألا أفوته، و هو زيارة "اجباية" ، فطالما تحدث عنها أبناء "لكران" و غيرهم من سكان الولاية ، و هي في الحقيقة موقع سياحي بامتياز، فلو أن مستثمرا اقام نزلا ثغيرا ، و قام بدعاية بسيطة في جهات وطنية و عربية و دولية ، لتمكن من الحصول على دخل كبير و استجلب عملة صعبة و وفر فرص عمل لعدة أفراد..

تبعد "اجباية" سبعة كيلومترات عن القرية، و هي شجرة ضخمة ملساء ، كثيفة الأفنان تقع في جانب الأخدود المنحدر من الجبل، و الذي يجري معه مياه الينبوع الذي لا يتوقف عن الجريان، و تكثر الأشجار و تتنوع ، و يرسم المشهد المكون من الجبل الحاني على المنخفض المرصع بمختلف الأشجار ، و تغطي أرضيتها أعشاب خضراء ، و يمتد الأخدود مطلقا ماء زلالا ، يظهر خلال تموجات سيله تربة بيضاء نقية تضاهي الماء لطافة و جمالا ..

حاولنا أن نصل إلى نقط تفجر الينبوع ، لكن وعورة الطريق و الصخور المسننة منعتنا من التسلق ، لكن الموقع كان ساحرا بكل معاني الكلمة ..

في المساء ودعنا قرية "لكران" الوديعة ، و التي تحكي حكاية العديد من القرى في موريتانيا ، حيث تشكل مخزونا للقيم و الأخلاق و الجمال ، و تحافظ على التواصل بين الماضي بثوابته و الحاضر و إكراهاته، بطريقة تحفظ عريق القديم و جميل الحاضر ، فتربي أجيالا محملة ثقل الماضي و مسؤولية المستقبل ..

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016