الصفحة الأساسية > الأخبار > "إيرا" تنشر وثيقة فى ذكرى حرقها لكتب دينية فى نواكشوط

"إيرا" تنشر وثيقة فى ذكرى حرقها لكتب دينية فى نواكشوط

السبت 27 نيسان (أبريل) 2013  11:20

تمر علينا اليوم الذكرى الأولى لإحراق كتب الفقه الممجدة والمقوننة والمشرعة والمؤسلمة للرق، والتي دارت أحداثها في مقاطعة الرياض (بالعاصمة نواكشوط) يوم 27 ابريل 2012.

وبهذه المناسبة، فإن مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية، التي قامت بذلك العمل الرمزي غير المسبوق في تاريخ النضال الحقوقي الموريتاني، ترى من واجبها أن تخلد هذه الذكرى بوثيقة تتناول الأبعاد الدينية والقانونية، مع مسارات نضال المبادرة ومسوغات أعمالها ومطامحها ومطالبها.

وبما أن حرق كتب النخاسة كان بمثابة الباب الذي دخل منه المغرضون والمرجفون وأساطين الإقطاع للنيل من المبادرة، فإننا سنبدأ برؤيتنا الواضحة المتعلقة به.

يقول بعض شراح "مختصر خليل" في "باب اللـُّـقطة والضالة والآبق واللقيط" ان "اللقطة مال وجد بغير حرز؛ ليس حيوانا ناطقا ولا نـَـعَماً". و"الحيوان الناطق" هنا هو العبد، دليل ذلك قول الشارح: "وقوله ليس حيوانا ناطقا يُخرج الرقيق لأنه آبق لا لـُقطة ، وقوله ولا نـَعما يخرج الإبل والبقر والغنم، إذ هي ضالة لا لـُـقطة". ويؤكد الشراح، بمختلف مشاربهم، أن "الضالة نـَـعَـمٌ وُجد بغير حرز، والآبق حيوان ناطق وجد كذلك".

ويستطردون في إهانة العبد بقولهم: "إذا وُجد عبد آبق فإنه يُعَرّف به (أي يُبحث عن مالكه)، فإن لم يوجد مالكه: هل يباع أم لا؟ قيل يحبس سنة ثم يباع، وقيل انه لا يباع لئلا يهلك ثمنه".

هذا المثال، البسيط جدا، من الفقه الفروعي المعتمد في موريتانيا، والمؤسِّس حصريا لمرجعية وثقافة ملك العبيد لدى خريجي المحاظر والتعليم الأصلي ومناهج تعليم القضاة والشرطة القضائية والإداريين، كان حريا به، وحده، أن يشعل في الانعتاقيين ثورة التمرد على غير القرءان والسنة الذيْن جاءا لتحرير البشرية وفك أسرها من الضيم والحيف والغبن وأغلال الجاهلية.

إن فقها يُحـَـوّل بشرا كرمه الله إلى حيوان ناطق "قيل لا يباع كي لا يخسر مالكـُه ثمنه في حالة أنه التـُـقط وحده في فيفاء، وقيل يحبس سنة ثم يباع لتعذّر العثور على مالكه"، وإن فقها يبيح لأمهات وجدات وأخوات غالبية هذا المجتمع أن لا يسترن عوراتهن، وإن فقها يمنع مسلمين، ولدوا على الفطرة، وورثوا الاسلام عن بضعة أجيال، من أن يصلـُّـوا الجمعة، ويجيز بيعهم وتبعيضهم وإعارتهم، لا يمكن إلا أن يكون محل رفض من لدن من نذروا أنفسهم لتغيير هذا الواقع "المؤدلج"، والانقلاب جذريا على المنظومة التي تؤسس له وتحتضنه، ومن ثم العودة إلى أصول الشرع النقي العاري من التأويلات الجائرة وشوائب التمصلح واحتقار البشر.

لقد عمدت إيرا إلى حرق كتب النخاسة، ليس حبا في إشعال الورق، وإنما لتبعث برسالة رمزية مفادها أن مجتمع ضحايا العبودية (سواء منه العبيد أو الحراطين) سئم ونفد صبره من تراكمات الظلم الممارس عليه بتشريع من هذه الكتب، كما أحرقتها لتفتح بذلك أكبر وأوسع نقاش عرفه تاريخ موريتانيا حول ظاهرة الرق وشارك فيه الجميع (فقهاء، أساتذة، إعلاميون، حقوقيون، سياسيون، شباب، كهول، نساء، أبناء أسياد، أبناء ضحايا، إقطاعيون، تحرريون، رجعيون، تقدميون، إسلاميون، قوميون، صوفيون، سلفيون، علمانيون، لا أدريون، محافظون، مستعربون، مستغربون...). وبالتالي فقد أحرقت تلك الكتب وهي تعي جيدا أنها ستدخل بموضوع الرق في موريتانيا منعطفا مفصليا لن تعود فيه الأمور إلى الوراء أبدا. لقد كانت تعي، وهي تهدي ألسنة النار أوراقا أحرقت أجيالا وأجيالا من العبيد، أن عملا كهذا سيشكل صدمة كبيرة، لكنه سيرغم المتعنتين وغير المكترثين والهيابين على البحث عن حلول ناجعة وسريعة خدمة للسلم المدني والتعايش السلمي. وكان على الذين شاركوا في مسرحية المسيرات المرتبة من داخل أروقة المخابرات والمطالبة بإعدام زعيم الانعتاقيين ورفاقه، أن يمتصوا الصدمة لأنها ستفضي إلى إنقاذ الطرفين (العبيد والأسياد على حد سواء). فالعبيد كانوا دائما ضحية تعسف تأويلات البشر، وتصلب آرائهم على فرضيات متناقضة مع سماحة الدين الاسلامي، والأسياد كانوا دائما ضحية نصوص متهالكة لم يعد يعمل بها غير الموريتانيين، كما أنهم يمثلون ضحية غير واعية لتراكمات من ثقافة التراتبية المؤصلة بالفقه الاسترقاقي، بالإضافة إلى أنهم معرضون لأن يصبحوا – لا قدر الله- ضحية لإصرارهم على ذات الفهم وإلحاحهم على مواصلة الظلم باسمه وانطلاقا منه.

لقد صبت كل خطوات إيرا، خاصة تلك المتعلقة منها بعملية الحرق الرمزي، في اتجاه إنقاذ كل الأطراف: الظالم منها والمظلوم، المالك منها والمملوك، الغابن منها والمغبون، لأنها لم تزل ترى أن الوطن يسع الجميع وأن مستقبل الوئام مرهون بحل معضل العبودية والعنصرية والإقصاء الممنهج.

كانت إيرا تعلم أنها، وهي تحرق تأويلات بشرية، قد مست مكمن الإيلام من الجرح الغائر في النسيج الاجتماعي، وكانت مستعدة لدفع كل ثمن مهما كان باهظا. غير أنها لم تكن في يوم من الأيام لتقتنع أن فعلتها تلك كانت ردة أو كفرا. فتلك الكتب ضارة ومتعارضة مع المصلحة التي جاء الشرع أصلا للحفاظ عليها، كما أنها تناقض فحوى ومضامين القرءان والسنة النبوية الشريفة، إضافة إلى أنها مجرد عمل بشري يأتيه الباطل من كل اتجاه. لقد اختارت إيرا أن تقول من خلال ألسنة اللهب أن غير القرءان والسنة لا عبرة به، وأن العبودية في النص القرءاني وصْف لحالة مؤقتة وعلاج لواقع تطلب، تحاشيا لنفور الأورستقراطية المكية، نوعا من التدرج المفضي، خلال سنوات قليلة، إلى التحرر من نير الرق لو طبق الشرع بحذافره. لم تكن لدى إيرا أية قناعة بأن حرق كتب تعارض روح الشريعة يمثل مساسا بأصول الدين، بل كانت، وهي تحرق كتب النخاسة، تردد مع ابن تيميه:

قال أبو حنيفة الإمامُ= لا ينبغي لمن له إسلامُ

أخذ بأقواليّ حتى تعرضا= على الكتاب والحديث المرتضى

ومالك إمام دار الهجرة= قال وقد أشار نحو الحجرة

كل كلام منه ذو قبول= ومنه مردود سوى الرسول

والشافعيّ قال إن رأيتمُ= قولي مخالفا لما رويتمُ

من الحديث فاضربوا الجدارا= بقوليّ المخالف الأخبارا

وأحمدُ قال لهم لا تكتبوا= ما قلته بل أصل ذلك اطلبوا

ولم تكن إيرا نشازا في حرق كتب تراها تمس بوحدة المسلمين وتماسك لحمتهم. بل ان تاريخ الدولة الاسلامية عرف حرق الكتب الدينية لمختلف الأسباب. وفي هذا السياق ذكر ناصر الحزيمي، في كتاب له عن حرق الكتب في التاريخ الاسلامي، طرقاً كثيرة في إتلاف الكتب، منها الحرق، والغسل، والدفن، والإغراق، وغير ذلك. وقال الخزيمي ان مصحف عثمان دُوِّن وأتلِف ما عداه من المصاحف، قبل أن يرصد المؤلف نماذج مما جرى على مدى عشرة قرون، بدأت من القرن الأول الهجري، وبالتحديد من السنة الثانية والثمانين للهجرة، بكتاب "فضائل الأنصار وأهل المدينة" لمؤلفه المحدّث ابان بن الخليفة عثمان بن عفان، إذ وصل هذا الكتاب إلى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عن طريق ابنه الأمير سليمان بن عبد الملك، وكان حينها ولياً للعهد، فرفضه عبد الملك لأنه لم يكن يعترف بفضل الأنصار في الفتوحات والجهاد. وهكذا أمرا بحرق كتاب العلامة المحدث ابن الخليفة عثمان بن عفان رغم أنه يدور حول ذكر مآثر وبطولات الأنصار في غزوة بدر وبيعتيْ العقبة. وبالرغم من أن صاحب الكتاب ليس إلا العلامة الورع أبان ابن أبي النورين، ورغم أنه مكتوب عن أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالتالي خلو من غير القرءان والحديث وأسماء الصحابة، فإن عملية حرقه لم تستدع أبدا تكفيرا ولا تبديعا لعبد الملك أو ابنه سليمان، فما عسانا نقول عن خليل والدسوقي وكتب تضر لحمة المسلمين وتبيح أعراض المسلمات؟ كيف لا يكفر من أحرق كتاب عالم ما يزال يتنفس هواء النبوءة من ينابيعه، ويكفر من أحرق كتاب مؤوّل متأخر؟

وفي سياق متصل، قال ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ": في سنة 322 هـ أحضِر أبو بكر بن مقسم (وهو من النوابغ في عصره) ببغداد وقيل له إنه: "قد ابتدع قراءة لم تعرف، وأحضر ابن مجاهد والقضاة والقراء، وناظروه ثم أحرق كتابه". ومن الواضح لغير البلهاء أن كتاب أبي بكر بن مقسم ليس إلا القرءان بقراءة لم ترق للبويهيين.

وإذا كان المؤرخون قد اختلفوا في أمر عبد الله بن المقفع (مترجم كتاب "كليله ودمنه") بحيث قال البعض بأنه زنديق، فإن البعض قال بأنه مسلم ثائر خرج على الدولة العباسية، وكانت الزندقة صفة ألصقت به لتبرير قتله بعد أن عارض الخليفة المهدي الذي أحرق كتبه وكتب شيعته المليئة بالعلم الشرعي والآراء الفقهية.

وقد أحرقت كتب الرافضة الشيعة دون إنكار أو تكفير رغم ما تحويه من قرءان وأحاديث وتمجيد لآل البيت. أما أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي (284-368 هـ) فذهب أبعد من ذلك إذ لم يحرق له أحد كتابا، بل قرر هو نفسه إحراق كتبه فأوصى ابنه أن يطعمها النار وهي ما هي من العلوم الشرعية واللغوية. قال عنه أبو حيان التوحيدي: "أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ، وإمام الأئمة معرفة بالنحو والفقه واللغة والشعر والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة، أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وُجد له خطأ ولا عـُـثر له على زلة". تواتر المؤرخون على أن قاضي بغداد عبد الله السيرافي كان زاهدًا لا يأكل إلا من كسب يده، ولا يخرج من بيته إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم إلا بعد أن ينسخ عشر ورقات، يأخذ أجرها عشرة دراهم قدر مؤونته، ثم يخرج إلى مجلسه. وها هو ذا يوصي ابنه بأن يحرق مؤلفاته الدينية واللغوية، ثم ينجو من حملات التكفير ربما لأنه لم يعش في بلادنا التصفوية.

نفس المنحى سار عليه علماء آخرون وما كان سببا قط لتكفيرهم أو اتهامهم بالردة والزندقة. وفي هذا الصدد، ذكر الدكتور منصور سرحان في محاضرة له ان "أبا حيان التوحيدي قام بإحراق كتبه بنفسه، لأنه لم ينل من التقدير والاحترام في حياته ما كان يرجوه، فصب جام غضبه على كتبه فأحرقها". وقال سرحان: يروى أنه كانت لعمرو بن العلاء، المتوفى سنة 154هـ، كتب ملأت له بيتاً حتى السقف، ثم إنه تنسك فأحرقها. ومن بين الذين أتلفوا كتبهم من تلقاء أنفسهم من أئمة المسلمين، أحمد بن أبي الحواري، موضحا أنه لما فرغ من التعلم جلس للناس فخطر بقلبه يوماً خاطر، فحمل كتبه إلى شط الفرات وجلس يبكي ساعة ثم قال: "نِعـْـمَ الدليل كنت لي على ربي، فلما ظفرت بالمدلول، فالاشتغال بالدليل محال".

وأضاف سرحان أن داود بن نصير الطائي، المتوفى سنة 160 هـ/776م، جمع مجموعة كبيرة من الكتب مكوناً بذلك مكتبة خاصة به، وقدم بغداد أيام المهدي العباسي، ثم قفل راجعاً إلى الكوفة. وسمع الحديث والفقه وعرف النحو وعلِم أيام الناس وأمورهم، ثم تعبد وتحولت حياته إلى العزل والانفراد، فعمد إلى مكتبته، التي كانت تضم كتبا في الفقه واللغة والأدب، وأخذ يفرقها في مياه نهر الفرات، وقيل إنه دفنها في الأرض.

ومن النماذج الأخرى التي أوردها المحاضر في نفس السياق ما حدث لأبي عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري عندما خشي سطوة المهدي العباسي وبطشه فاختفى عن الأنظار وظل متستراً عن المهدي في البصرة حتى وافاه الأجل المحتوم سنة 161هـ/777م. وقد امتلك سفيان الثوري مكتبة كبيرة فيها كتب مختلفة من الفقه والعلوم الأخرى، وخاف على كتبه فقام بدفنها من أجل إتلافها.

وقال التونسي ناصر بن رجب ان "حرق الكتب سنّة سار عليها اثنان من الخلفاء الراشدين. فقد أحرق عمر بن الخطاب صُحُفا جُمعت فيها أحاديث الرسول على ما ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى، إذ أورد أن الأحاديث كثرت على عهد الخليفة عمر فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها، أمر بحرقها ثم قال: "لا كتاب بعد القرءان". ومعروف أن المرابطين أحرقوا سنة 503 هـ كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبي حامد الغزالي على يد الأمير علي بن يوسف بن تاشفين الذي كتب إلى جميع ولاته آمرا بإحراق ما في مناطقهم من نسخه. فأين نحن من تكفير المرابطين أو حتى استنكار هذه الحادثة؟ إن حجم تبجيل المرابطين في هذه الأرض والاعتزاز بتاريخهم لا يوحيان بأن إحراقهم لكتاب "إحياء الدين"، بما فيه من آيات وأحاديث واجتهادات، كان أو سيكون سببا في تبديعهم أو تكفيرهم.

ويغيب عن بعض الأذهان أن بعض الروايات تقول بأن سبب حرق المرابطين لكتاب الغزالي يعود إلى أن الغزالى نفسه أفتى بحرق بعض كتب الفروع المالكية "لبعدها عن الأصول". لقد كان في مسعاه هذا إيراويا قدّمه الله أو كانت إيرا غزالية أخرها الله.

كما يؤكد المؤرخون أن الدولة الموحدية (541-668) عملت على محو الآثار العلمية والفكرية للدولة المرابطية نظرا لتبني مؤسسها عقيدة غير واضحة المعالم؛ فهي خليط من معتقدات المعتزلة والشيعة والخوارج بالرغم من شعارات سلفية كالتوحيد والعودة إلى الكتاب. وقد قام الخليفة عبد المؤمن بن علي الموحدي بحرق الكتب الفقهية الفروعية سنة 555هـ انتقاما من المرابطين الذين احرقوا كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، كما أحرق الموحدون كتاب مدونة سحنون.

وتقول المصادر التاريخية ان أبا يوسف يعقوب المنصور الموحدي، بعد أن تولى حكم المغرب سنة 585 هــ، أصبح يشعر بالخطر إزاء الحالة التي وصل إليها الفقه المالكي من تشعب الآراء، والعمل بأقوال الفقهاء المالكية، والاعتماد على كتب الفروع بدل الأخذ من نصوص القرآن وسنة رسوله عليه السلام. من أجل هذا، أراد أن يرد الناس إلى مصدر التشريع الإسلامي، فأصدر أمره بإحراق كتب الفروع المالكية سنة 591 هــ، في أنحاء البلاد المغربية. فمن يا ترى كفـّـر المنصور الموحدي الذي أحرق نفس الكتب التي أحرقتها إيرا: أي الفروع المالكية التي لا صلة لها بنهج وتعاليم ومسلكيات إمام دار الهجرة العلامة مالك بن أنس.

وإن محاولة حرق كتب الفروع ومحاربتها، ظهرت ببلاد الغرب الإسلامي قبل الموحدين، وذلك أن المحدث الكبير عباس الفارسي، أحرق بنفسه كتب الفروع في وسط مدينة القيروان، أوائل القرن الثالث الهجري في عهد القاضي أسد بن الفرات، سنة 213هـ.

ويقول إدريس الشنوفي في مقال بعنوان: "لماذا أحرق المرابطون كتاب الإحياء؟": "بدأ الأمر بفقهاء قرطبة الذين تكلموا في "الإحياء" وأنكروا فيه بعض الأشياء، وفي مقدمتهم القاضي إبن حمدين الذي وصل به الأمر أن كفـّر كل من يقرأه و يعمل به، بل استطاع إقناع علي بن يوسف بضرورة التخلص من نسخه وحرقها، وبهذا "عزم علي بن يوسف على إحراق كتاب أبي حامد الغزالي، فأحرقه في رحبة مسجد قرطبة، على الباب الغربي، بعد إشباعه زيتا، وحضر لذلك جماعة من أعيان الناس، وابتعث رسائله آمرا بإحراق هذا الكتاب حيثما وجد". وقال الدكتور سرحان ان "مكتبة عبد السلام بن عبد القادر بن أبي صالح بن جنكي دوست الجبلي البغدادي، تعد المكتبة الثانية التي تحرق بكاملها بأمر حاكم عربي هو الخليفة العباسي الناصر لدين الله المتوفى سنة 622هـ/1225م. ورغم أن الخليفة أحرق في هذه المكتبة آلاف الكتب الدينية لأجلاء علماء الشريعة الاسلامية، فلم نسمع من كفـّـره بهذه الفعلة أبدا. وأردف سرحان يقول بأن "الحكام أو الخلفاء كانوا إذا أرادوا اضطهاد المعتزلة أحرقوا كتبهم".

وقال ابن خلدون ان السلطان محمود الغزنوي لما فتح الري وغيرها سنة 420 هـ، قام بقتل الباطنية ونفى المعتزلة وأحرق كتبهم.

ويذكر أحمد أمين في كتابه "ظهر الإسلام" حوادث حرق كتب الفقهاء في عصر مؤسس دولة الموحدين من خلال ما رواه صاحب "المعجب" باعتباره شاهد عيان على حرق الكتب بقوله: «وفي أيامه - أي أيام محمد بن تومرت - انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب، فأحرق منها جملة في سائر البلاد. وقد شهدتُ ذلك وأنا بمدينة فاس، يؤتى منها بالأحمال فتوضع وتطلق فيها النار". فمن كفـّـر ابن تومرت؟.

ولا نرى أدل على حالة إيرا مع كتب الفقه الممجدة للرق من قول الشنافي: "قد يكون إحراق كتاب "إحياء الدين" ليس الأسلوب الأنسب والأفضل، لكننا نعتقد أن هدف المرابطين كان نبيلا، ألا وهو حفظ وحدة المغرب الدينية. ولعل هذا ما حصنه وجنبه ما وقعت فيه كثير من مناطق العالم الإسلامي من ذهاب ريحها".

إن حرق إيرا لكتب الفقه الممجدة للعبودية والمقوننة لها في دستور موريتانيا لم يكن إلا عملا رمزيا، سبقها إليه الكثيرون في تاريخ الأمة دون أن يشنعه أحد. ولم تكن إيرا تريد به أكثر من لفت الأنظار إلى ما سببته تلك الكتب من مأساة لآلاف البشر عبر تاريخ موريتانيا، كما أرادت به فتح نقاش جاد حول ظاهرة العبودية. إنه احتجاج فكري استراتيجي مخلـِّـص، ترى المبادرة الانعتاقية أنه كان ضروريا للبدء في مراجعات فقهية ومنهجية تمنع تدريس الناشئة كتبا ستلصق في أذهانهم أن العبودية شرعية ومشروعة، وتجعل الأطفال يكبرون على احتقار مواطنيهم والاستخفاف بهم باسم دين تعتبر أنه من الظلم والحيف براء.

إن ما تعيشه البلاد من ظلم طال أمده تجاه شريحة بعينها يتطلب، بالإضافة إلى المراجعات الفقهية الملحة، التأكيد المنصوص على أن الكتاب والسنة هما مصدر التشريع، وليس الفروع والتأويلات البشرية التي تعلم الأطفال كيف يباع العبد، ومتى تحق نفقة العبد، وما حدود ستر عورة العبدة، وغير ذلك من العلوم الضارة التي حرمت كل البلدان الاسلامية تعليمها.

إن وضع الضحايا، ومستوى وعيهم، وضرورة تحولهم إلى مواطنين كاملي الحقوق، وصورة البلاد في محيطها القاري والعالمي، وأهمية إحداث قاعدة واضحة يقوم عليها سلم مدني مستديم، أمور تستدعي التعجيل بتحريم وتجريم تدريس مثل هذه العلوم أو الترويج لها في المحاظر والمعاهد والمدارس والإذاعات والتلفزات والجرائد. كما لا يمكن للمبادرة الانعتاقية إلا أن تشدد على ضرورة أن يصدر العلماء، فرادى أو جماعات، فتاوي واضحة تحرم الرق والاسترقاق، وتؤكد للعامة والخاصة أن ممارسة العبودية ليست شرعية على الإطلاق. وإن المنظمة لتستغرب أنها كلما التقت بعالم، بطريقة مباشرة أو من خلال وسيط، أكد لها أن ممارسة العبودية في موريتانيا لا علاقة لها بالشرع، وأنها ظلم جلي لا يرتكز على أي أساس شرعي أو منطقي، وأنها بالتالي حرام. لكن المنظمة في المقابل تقف حائرة أمام تعنت ورفض ومراوغة نفس العلماء أمام القبول بإصدار فتوى مكتوبة أو علنية تحمل مضمون ما يقولون في اللقاءات الخاصة. إن حيرة المنظمة لتزداد عندما ترى عالما يقول بأن حكم الله هو تحريم هذه الممارسة، وأن المصلحة تقتضي ذلك، ثم يرفض إصدار فتوى علنية بحكم الله وبمصلحة العباد!.. يريد البعض أن نكتفي بفتوى الثمانينات التي يعتبرها الانعتاقيون خجولة ومتجاوزة، لذلك فشلت في إيجاد النتيجة المبتغاة منها. وعليه فإن النشطاء لا يقبلون بغير فتوى جديدة ومؤصلة وواضحة ونظيفة من التوريات والتلاعب بالألفاظ والعقول من أجل دحض كل المبررات التي يعتمد عليها ملاك العبيد للإبقاء على ممارساتهم غير الشرعية. هكذا يمكن للعلماء والفقهاء أن يسايروا الركب الحضاري، وأن يساهموا في تجنيب البلاد ويلات الظلم باسم الدين، وأن يلعبوا دورا أساسيا في بناء مستقبل آمن خالٍ من الهزات.

أما على المستويات الأخرى، ففضلا عن مئات العبيد الذين حررتهم مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية بحملاتها التوعوية دون اللجوء إلى المحاكم، فإن تعنت ملاك العبيد أرغمها في عديد المرات على الدخول في مسلسل عصيب من الإجراءات القانونية والاعتصامات من أجل فك أسْر عبد أو عبدة أو عائلة بكاملها. وقد شكل تواطؤ السلطات (من شرطة ودرك وإدارة وقضاة) العائق الدائم أمام أخذ العدالة مجراها الطبيعي؛ مما شجع الأسياد على مواصلة جُـرمهم لأنهم يحسون بحماية الدولة التي توفر لهم أسباب ومنافذ الانفلات المستمر من العقاب. ولمواجهة هذا التواطؤ الغريب، في ظل قانون مجرم للمارسات الاسترقاقية، ورغم المواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعتها موريتانيا، كانت منظمة إيرا مرغمة على التعبئة المستمرة- ليل نهار- من خلال المسيرات والاعتصامات والبيانات والمقابلات والاتصالات والاجتماعات، بغية الضغط المكثف من أجل تحريك الملفات ومحاكمة الضالعين؛ الأمر الذي عرّض قادتها ومناضليها إلى المضايقات والتعنيف اللفظي والتعذيب الجسدي والسجن والمحاكمات الزائفة، محطمين بذلك رقما قياسيا مؤلما تمثل في أنهم أصبحوا – خلال الثلاث سنوات الأخيرة- المناضلين الأكثر سجنا في البلاد، خاصة الزعيم بيرام ولد الداه ولد اعبيد.

إن منظمة إيرا، رغم تحالف الأغلبية والمعارضة ضد مشروعها الانعتاقي، ورغم تغلغل المنظومة الاقطاعية في مفاصل الدولة والمجتمع (حكومات، إدارة، موالين، معارضين، فقهاء)، لم تزدد إلا إصرارا على مسيرتها النضالية السلمية، وتشبثها بضرورة تطبيق القانون المجرم للعبودية، ودمج الضحايا، وإنصاف اللاجئين، ومحاربة العنصرية، وتمكين الحراطين من نصيبهم في السلطة والثروة حسب حجمهم الديمغرافي، وهدم أسس الثقافة التراتبية لصالح كل الطبقات المهمشة، وتطبيق مبدأ التمييز الإيجابي لصالح العبيد والعبيد السابقين.

لقد انبرت بعض الأوساط السياسية، إن لم تكن كلها، بمن فيهم من يـُـفترض فيهم الدفاع عن المستعبدين والمظلومين، إلى اتهام مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية بالعمل على إشعال فتنة بين مكونات المجتمع. فيما ظلت المنظمة ترى أن نضالها الصادق والصريح شكل ويشكل صمام الأمان الوحيد أمام الانزلاق في متاهات الحروب الأهلية والفتن. لأن المنظمة تدعو وتفرض إنصاف مجتمع مسترق، وفي أحسن الأحوال مقصي، ولأنها على يقين أن التمادي في استرقاق وإقصاء هذا المجتمع سيؤدي حتما إلى نتائج وخيمة؛ لأنه أصبح يمثل تراكما فظيعا من الظلم الذي لم يعد تحمُّـله ممكنا أمام موجة الوعي المتنامي.

إن النضال من أجل تحرير البشر والطاقات، والمساواة في الفرص، وتطبيق القانون، وبناء العدالة الاجتماعية، والمشاركة في السلطة، والتوفر على ما يحتكره الآخرون من ثروة وتمدرس ووظائف، لا يمكن أن يعتبر عامل هدم إلا بالنسبة للقاصرين فكريا، فهو وحده الكفيل ببناء مجتمع هادئ يعيش مطمئنا على مستقبل لحمته. ولا أدل على الطابع الجمعوي السلمي لنضال المنظمة من كونها تضم، منذ تأسيسها، أشخاصا وفعاليات من الحراطين والبيظان ولكور. ولذلك فإنها لا تعبأ بالحملات الأخيرة، التي يقودها رؤساء أحزاب، لم يعد لديهم من البرامج إلا اتهام إيرا بالسعي إلى تفتيت وحدة الشعب، وأنهم هم حماة هذه الوحدة العرجاء القائمة على ظلم بعض الشرائح وتهميشها وإقصائها واسترقاق جزء منها. ورغم أن المنظمة تتفهم كثيرا لجوء هؤلاء إلى إلصاق التهم بها بعد أن سحبت من تحتهم قواعدهم، ورغم أنها تتفهم محاولاتهم التقرب إلى الأوساط الإقطاعية بحثا عن ريع ذلك، إلا أنها ظلت مقتنعة أن الوحدة الصلبة الحقيقية والدائمة لا يمكن أن تـُبنى على حساب طرف ولا لصالح طرف، بل لابد أن تؤسس على أرضية جديدة ومفاهيم جديدة تتعارض جذريا وراديكاليا مع كل ما كان قائما من ممارسات وعقليات خدمة للسلم الذي يتشدق البعض بأنه حاميه.

لا يمكن لوحدة، يراد لها أن تكون جادة ومُطـَـمْـئنة على مستقبل البلاد، أن تقوم إلا على العدالة الاجتماعية، وتطبيق القانون، وإشراك الجميع في الاستفادة من الثروة والمساهمة في ممارسة السلطة. وعندما تتوفر هذه الشروط فلا مناص عن الوحدة وإلا فلا وحدة، لأنني – ببساطة- لا يمكن أن تصر على ظلمي وغبني وتريدني أن أصر على التوحد معك ضدي. إنها عقلية بائدة ظلت الحكومات ودوائر مخابراتها تستخدم لتمريرها وفرضها أجيالا من نخب وسياسيي ونقابيي الشريحة المستعبدة المقصية. إنها محنة هذه الشريحة التي جاءت إيرا لتوقفها بكل الوسائل المشروعة والمسالمة.

إن مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية ظلت تعتبر أنه مادامت الطبقة السياسية (موالاة ومعارضة) مجمعة على الوقوف سلبيا أمام المطالبة بتطبيق القانون، وما دامت الدولة ترفض تطبيقه في قضايا العبودية الواضحة التي تقدمت بها المنظمة، وما دام الضحايا لا يجدون من يؤازرهم غير إيرا ومنظمات حقوقية قليلة، فإن الوحدة التي ننشدها ونصبو إليها لن تتحق إلا على حساب من كانت دائما على حسابهم؛ الأمر الذي لم يعد مطاقا ولا مقبولا. وأخيرا، فإن مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية تنتهز فرصة تخليد هذه الذكرى لتتقدم بتشكراتها الخالصة للمنظمات والأحزاب الوطنية والهيئات الدولية الاسلامية والعالمية التي وقفت معها في محنتها أيام عمليات القمع والتعذيب والاعتقال التي تعرضت لها بعد الحرق الرمزي لكتب النخاسة، وإنها لتؤكد مجددا الطابع السلمي لنضالاتها، وتشبثها بوحدة الشعب الموريتاني، وإصرارها على الانقلاب الجذري على منطومة القيّم الفاسدة المتجاوزة التي تأسست عليها تراتبية المجتمع، وسعيها الدائم على مواصلة كل وسائل النضال المشروعة حتى يتحرر آخر عبد، ويتم دمج العبيد السابقين، بالإضافة إلى تصميمها على مواصلة نشاطاتها النضالية من أجل بناء مفهوم المواطنة وخلق المواطن التام الواعي بحقوقه وواجباته، القادر على ممارسة الفعل الديمقراطي والمساهمة في العملية التنموية؛ ذلك المواطن الحر الفخور بانتمائه لوطن يحمي له عرضه ويوفر له حقوقه ويضمن سلامته ونصيبه في الفعل السياسي والاقتصادي.

1 مشاركة

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016