الصفحة الأساسية > آراء حرة > تغول القبيلة.. إلى متى؟

تغول القبيلة.. إلى متى؟

السبت 21 أيلول (سبتمبر) 2013  15:57

موسى ولد حبيب، كاتب صحفي

يبدأ انحطاط مجتمع ما –وفق تعبير دنيس دو روجمان- عندما يتساءل المرء: "ما الذي سيحدث؟" بدلا من أن يقول لنفسه: "ما الذي أستطيع فعله؟". وإذا كان المقام هنا يضيق عن المحاججة بشأن مدى صدقية هذه "البديهية"، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن التساؤل الذي يتردد اليوم أكثر من غيره في موريتانيا هو: "ما الذي سيحدث؟".

وسواء تعلق الأمر بكبار الساسة والمسيرين أو بهواة جمع الأخبار وتقصي الشائعات، فستصادف هذا التساؤل –وإن بصيغ متعددة- يتردد على شفاههم مرفوقا بنبرة قلق على مستقبل البلاد وبمستوى من اليأس يتناسب مع رغباتهم وتجاربهم الشخصية، ستصادفه أيضا حتى لدى ألئك الذين ما يزالون يحلمون بالتغيير ويبذلون بعض الجهد في سبيل تحقيقه!

قد يكون الأمر متعلقا بالفعل ب "بداية انحطاط المجتمع"، لكنه قد يكون تعبيرا عن حالة من عدم اليقين ومن ضياع البوصلة لدى مجتمع يمر بمرحلة انتقالية تتقاذفه خلالها أمواج الصراع بين عناصر التغيير وعناصر المحافظة في وقت تبدي فيه نخبه مستوى بائسا من العجز عن تنويره ومرافقته حتى يصل إلى بر الأمان، بل إن هذه النخب لتزيد من ارتباكه وتسحبه نحو متاهات تقوض الوعي وتعمق التخلف.

تتعدد مظاهر عجز هذه النخب لدرجة أنه يمكن القول بأنها في معظمها تنصلت من مسؤولياتها وانغمست في مساوئ المجتمع، لتتحول إلى قوة عطالة تبذل أقصى جهودها لكبح جماح حركة التاريخ، محاولة إبقاء الدولة تحت هيمنة أفكار وبنى اجتماعية عتيقة لا تريد أن تتصور إمكانية تحقيق مصالحها وحمايتها من خارج تلك الأفكار والبنى المناقضة للأسس التي قامت عليها الدولة والغايات التي أنشئت من أجلها.

ومع أنه تمكن ملاحظة هذا العجز في شتى المجالات، إلا أنه يبدو في "أبهى حلله" حين يتعلق الأمر بالارتماء في أحضان القبيلة والعض بالنواجذ على العقلية القبلية بمختلف إفرازاتها وسلبياتها بما في ذلك استخدامها المزدوج للقبيلة كمظلة حماية في وجه الدولة من جهة وكمجموعة ضغط لتحقيق المنافع وتعظيم المكاسب، من جهة أخرى.

سطوة القبيلة

بالرغم من أن حضور اجتماع قبلي في سبعينيات القرن الماضي، كان سببا كافيا لإقالة موظف حكومي في بلادنا، فإن القبيلة مع مرور الوقت –وبالتناسب طرديا مع تآكل مفهوم الدولة- استعادت وهجها، بل إنها هيمنت على مختلف مفاصل الدولة لتحيلها إلى مجرد أداة لملء خزائن "القبيلة" وتوظيف أبنائها. ومع الوقت تحول كل رئيس يقفز إلى مقاليد السلطة إلى قائد أعلى لتحالف قبلي تسخر له إمكانات البلاد وثرواتها وأصبح الوجهاء هم السادة الفعليون للمجتمع والممر الضروري لأفراد النخبة المتعلمة لتتاح أمامهم فرص إكمال دراساتهم أو الولوج لسوق العمل.

فلا أحد يجهل اليوم أن السلطة في بلادنا موزعة بشكل رئيسي بين مجموعة قبائل لكل منها "محمياتها" الخاصة بها، كما لا أحد يجهل أن التحالف القبلي الحاكم يعتز علنا بوجوده في السلطة ويجاهر –وأحيانا بوقاحة منقطعة النظير- بتطويعها ليس لخدمة مصالحه الخاصة فحسب، بل وأيضا لمعاقبة قبائل منافسة بإقصائها وتقليم أظافرها، وفق نفس المنطق الذي كان يحكم غزوات وثارات القبائل في فترات السيبة.

مدننا وقرانا الداخلية مملوكة لقبائل باعتراف السلطات والفاعلين السياسيين، مقاطعات عاصمتنا موزعة بين القبائل، حكوماتنا تعين وفق توازنات قبلية، مجالس إداراتنا هدية لوجهاء القبائل، برلماننا ناد للأعيان، مراعينا مملوكة للقبائل فلا منم يستطيع الحفر بها دون إذن قبلي ولا باحث عن مكان إقامة قادر على مجرد التفكير في بناء عريش يؤوي أسرته فيها! أراضينا الزراعية مصادرة من طرف القبيلة بمفهومها الاقطاعي، فمن حقها أن تمنع الفلاحين من استغلالها ومن حقها أن تمنحها لهم مقابل الولاء والسخرة!

باختصار كل أراضي الجمهورية مملوكة للقبائل من تخوم العاصمة إلى أقصى نقطة حدودية في مختلف جهات البلاد، أما أراضي العاصمة التي "اغتصبتها" الدولة من ملاكها الأصليين فقد حلت عليها "لعنة القبيلة" لتتحول إلى مركز ضخم "للفشل والإرهاق"!

لا ضير إذا أن تستأسد القبائل حتى في قلب العاصمة، فتتقاتل في وضح النهار مرة على قطعة أرض ومرة على مفتاح حانوت ثم تحشد كل قوتها لتتصالح بإشراف وتنظيم من نخبها وبحضور مسؤولين سامين في الدولة وعلى مرأى ومسمع من كل سلطاتها المركزية، كما لم يعد غريبا ولا نادرا أن يحيل رئيس قبيلة رسالة –موقعة باسمه وصفته وخاتمه- لإشعار السلطات الإدارية المحلية والجهوية بعقد اجتماع قبلي فتمنحه الموافقة وتكون مسرورة برفع تقرير لرؤسائها بأن تلك القبيلة "نجحت في حشد الآلاف وأعلنت دعمها اللا مشروط لبرنامج فخامة الرئيس"!

أما حين يتعلق الأمر بالتستر على المجرمين وحمايتهم، فتظهر القبيلة على حقيقتها وكأنها ليست شيئا آخر سوى مصنع لإنتاج المجرمين والدفاع عنهم! كم من تظاهرة قبلية شهدتها شوارع عاصمتنا ومدننا وحتى الشوارع المحاذية لرئاستنا، لنصرة هذا المتهم أو ذاك الماثل أمام العدالة؟ كم من مجرم خلصته قبيلته بهدوء بعيدا عن الأضواء ودون أن ينال ما يستحقه من عقاب؟ كم من صفقة عقدت باسم القبيلة لحماية القتلة وأكلة الأموال العمومية والخصوصية ومهربي العملات والمخدرات وغيرها من الممنوعات؟

اغتيال الحلم

لم تأت هيمنة القبيلة من فراغ، بل كانت نتيجة جهد دؤوب رعته أجهزة الدولة وارتقت به النخب الفاسدة إلى مستوى "الواجب الوطني" وتقبله الآخرون "كواقع لا مناص من التعامل معه". تطلبت مصلحة الدكتاتورية استغلال القبيلة في مواجهة خطر التنظيمات السياسية باعتبارها قاعدة للتغيير وأداة فعالة لتوعية وتحريك الجماهير، فأعلنت حربا لا هوادة فيها ضد "الايديولوجيات المستوردة" و"السياسيين الخبثاء" و "الأفكار الهدامة" وكرست كل طاقاتها لهدم كلما بنته ولضرب بعضها ببعض حتى لا تبقى هناك "حقيقة" خارج القبيلة والدكتاتورية والسير في فلكهما.

نجحت الدكتاتورية بالفعل في تحجيم التنظيمات السياسية وتأليب "الرأي العام" عليها، لكنها في نفس الوقت سقطت تحت معاول القبيلة بعد أن عرفت هذه الأخيرة كيف تستغل الايدولوجيا والسياسة والساسة وحتى الدكتاتورية، لتحيل الدولة إلى هيكل فارغ من أي مضمون حداثي، أي إلى مجموعة أجهزة مشوهة لتبادل الأدوار وتقاسم المنافع.

وبدلا من استمرار تغذية الحلم بإمكانية بناء دولة الاندماج والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، كان "التحالف" بين الدكتاتورية والقبيلة قد تحول إلى سلطة فعلية أنجبت إيديولوجيتها الخاصة: الاستهتار بالفكر، احتقار الثقافة والقيم، عبادة "القادة الملهمين" والمصالح الأنانية...

لذلك لم يكن صدفة أن "الموضة الفكرية" السائدة اليوم ليست شيئا آخر سوى تحقير المرجعيات الفكرية وتزوير التاريخ وشيطنة الساسة والتنظيمات السياسية وحتى النقابية، كما ليس صدفة أن من يحملون لواءها اليوم يضمون في صفوفهم الأمامية أصحاب سوابق ممن راكموا خبرات هائلة في المتاجرة بالمبادئ وخيانة قوى التغيير ولا أن قواعدها تتسع ل"شذاذ آفاق" لا رابطة تجمعهم سوى ازدراء المصلحة العامة وتصيد الفرص.

والمؤسف أن هذه الموضة قد فرضت نفسها حتى على من يتحسسون طريقهم للخروج من عنق الزجاجة لكنهم في نفس الوقت يصرون على تجاهل أنه في غياب المشاريع الانسانية الكبرى والتنظيمات المدنية المناضلة، لن يكون البديل سوى تأليه القائد أو القبيلة أو الشريحة أو الطائفة أو العرق، أي أن المناخ لن يكون ملائما لأكثر من تفريخ الانتهازيين والمغامرين أو تهيئة الأرضية الملائمة للصراعات العنيفة والحرب الأهلية.

إن مشكلة العقلية القبلية هي مشكلة كل عقلية خصوصية تبدو براقة ومقنعة ومجدية، غير أنها في جوهرها عقلية "فاشستية"، تعيق الاندماج الوطني وتعمق الصراعات وتشل الطاقات وتسعى لإزاحة العقل ومجابهة منطق التاريخ. بإمكانها أن تنتصر لبعض الوقت وأن تحقق بعض أهدافها، غير أن هزيمتها ضرورية وممكنة وتخدم مصلحة الجميع.

قد تكون الظروف الحالية تضغط علينا بقوة لنبقى في حدود التساؤل "ما الذي سيحصل؟"، لكننا حين نصبح جاهزين للتساؤل "ما الذي يمكن أن نفعله؟"، سنكتشف بأنه علينا أن نبدأ من هنا، أي من تصفية الحساب مع العقلية القبلية وغيرها من العقليات التي تميز بين أفراد الشعب الواحد وتضع بعضه في مواجهة بعض.

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016