الصفحة الأساسية > آراء حرة > اللحية و الشارب/ ابو العباس ابرهام

اللحية و الشارب/ ابو العباس ابرهام

الأحد 4 آذار (مارس) 2012  16:49

أعتقد أنه يجب أن نقوم بزيارة لمبدأ غض البصر. إن هذا المبدأ هو مبدأ ديني سليم غير أن تطبيقاته الحرفية قد أخرجته السياق. ففي السنوات الأخيرة كان الغضوضيون يمشون مندفعين وهم منحنون فيما لحاهم الحريرية منبسطة إلى الوراء كأنها وسادات أمير المؤمنين و يميلون برؤوسهم إلى الأمام في وضعية ثيران بشرية ثم يندفعون فيما يؤكد هذه الثورية (من الثيران وليس من الثورة)، و كانوا يبدون من بعيد كما لو أنهم مخلوقات الدكتور مورو: مخلوقات شبه آدمية منحنية تعقل و تحس وتمشي على قدمين. و كانوا يبدون مستحوذين بحسهم الديني الذي يمنعهم من رفع رؤوسهم لرؤية المحارم أمامهم. كانت فلسفتهم بوذية تعتقد بشَرِّ المظاهر و تلجأ إلى غض البصر عنها.

كان يجب على غير الغضوضيين- أمثالي أنا والذين اعتقدوا-خطأ - أنه برفع رؤوسهم يصبحون جزءا من العالم- أن يدفعوا ثمن انحناءات الآخرين من مخلوقات الدكتور مورو. فنحن كنا نتعرض فجأة، كلما سهونا عن النظر أمامنا، إلى نطحة قوية غير مقصودة من أحد الغضوضيين الذي يرفض مشاهدة ما هو أمامه، و الذي كان يسارع بالإعتذار أو بالدعوة لنا بالهداية ثم يواصل طريقه إلى الضحية القادم. جعلنا الغضوضيون نحس أننا أطلس يحمل العالم فوق كتفيه، و أن الهلاك سيحدث كلما التفتنا جانبا. و لقد أسس هذا لنوع من الوجودية الموريتانية جعل غير الغضوضيين من أمثالي و صحبي نتحمل مسئولية وجودنا كمخلوقات تنظر إلى الأمام وتتعرض لجحيم الآخر و غثيان الكون و ألمه. في المقابل لم يكن الغضوضيون وجوديون مطلقا و إن كانوا بقوا سيزيفيين غالبا. كانت ماهيتم تسبق و جودهم. كانت أعداد الغضوضيين تزداد بسرعة و لأسباب بدت متعلقة بالمجتمع والسياسة و المسجد و بعض الكتب التي "توزع مجانا و لا تباع" و بعض الأشرطة المليئة بالزعاق و البكاء...

اليوم يجب أن نعترف أن الغضوضية كانت موضةmode ، رغم أنها لم تكن متماشية معها، لم تكن à la mode . و الأمر الملازم لهذا أنها كانت نابعة من سوء الفهم. ففي تلك الفترة كانت المسلسلات الإسلامية في أوج عهدها، وكانت تشاهد فيها أنماط عجيبة من البشر: أعيان المماليك الذين يلبسون البنطال الحريري الذي ينحدر متسربلا و منتفخا قبل أن توقفه عند حده فجأة الأحذية الجلدية الطويلة في منتصف الساق: أحذية كبيرة متعجرفة و معادية للوئام. و كانوا يمشون متوشحين بسيوف نصف دائرية يجب الحذر دوما أثناء المعركة من ارتدادها على ماسكها بفعل دائريتها كأنها خناجر اليمن، التي كانت أكثر أهمية في التزين منها في القتال. و هو ما يفسر قلة انتصارات المماليك رغم أنهم حكموا في أطول فترة.

فوق هذا كان المملوكي يبدو في المسلسل الإسلامي بلحية نصفية تبدأ من نصف الفك بدون أي تبرير لغيابها في النصف الفوقي لتنهار في شكل مأساوي و فوضوي عندما تصل إلى مستوى الذقن، أما الشارب فلم يكن هنالك غالبا، و هو ما يجعل المملوكي يشبه يشبه إحدى شخصيات هتشكوك، باستثناء أنه كان يضع عمامة كبيرة مزركشة بجوهرة مزورة في المنتصف.

ولكن يجب أن لا نختزل أبطال المسلسلات الإسلامية في مجرد هذه الشخصيات، فعموما كان هنالك خندقان: الكفار و المسلمون. كان الكفار يلبسون ملابس سوداء أما المسلمون فكانوا يلبسون ملابس بيضاء، و كأنهما فريقان للعب كرة قدم. و كان الكفار يبدون مستهترين وغير جديين و يضحكون بصوت عال و يتمايلون يمنة و يسرة و يستمعون للموسيقى الصاخبة و ينظرون للفتيات الراقصات أمامهم و يأكلون العنب الذي يتساقط من أفواههم ثم يرتشفون الخمر القاني و يمسحونه عن أفواههم بأطراف أيديهم فيما ضحكاتهم العالية ترج في الأمكنة و في جوار كل واحد منهم جارية يضع عليها يده و يعطيها حبة عنب بينما بقية أصدقاءه يسخرون من الإسلام و يقهقون.

أما المسلمون فكانو يبدون وديعين، يجلسون دوما تحت النخل أو في المسجد، و حركاتهم محسوبة و أوجههم نورانية، يمشون بهدوء و يبتسمون بدون سبب محدد و يقرأون القرآن في رقعات جلدية أو يحدث واحد منهم الآخر عن ما حدث للرسول مع جبريل و مع خديجة و مع الجميع، و كأن البقية هم مشاهدون و ليسوا جزءا من الحدث، و ما إن يظهر أحدهم حتى تتغير الموسيقي من موسيقى غاضبة إلى أخرى هادئة و ديعة مليئة بالحب. و كان الأمر الغريب هو أنه ما إن يدخل أحد الكفار الإسلام حتى يتحول إلى وديع و هادئ و يصبح وجهه نورانيا و نظيفا و تختفي علامات الإستهتار و الموسيقى الشريرة.

كان الغضوضيون متابعون لهذا النوع من المسلسلات، ولقد أخذوا من مسلمي العهد النبوي هدوءهم، سوى في لحظات المشي الإندفاعي، و أخذوا منهم ملابسهم البيضاء و عمامتهم المنحدرة بقسوة على الظهر و لقد استفادوا من مخيلتهم الحديثية فنسخوا دراريع مربعة لا تكاد تصل إلى منتصف الساق، أما من المماليك فقد أخذوا اللحية الهلالية؛ و بخصوص المشية فقد استخدموا نمطا مزدوجا: استفادوا من المشية الأيوبية المتبجحة بحضور الرجال أما إذا حضر النساء فإنهم كانوا يستخدمون المشية الغضوضية المأخوذة من الأشرطة الدعوية و المخيال الحديثي. كان الفرق بين الغضوضيين و بين "الدي دجي" أو منظم الموسيقى أن الثاني كان ينتقل بين أصناف الموسيقى أما هم فكانوا ينتقلون بين أصناف شخصيات المسلسلات و المخيال الديني الذي تسلل إليهم من الأشرطة الدعوية، و لكنهم كانوا يتبنون نفس التكتيك في التنقل و المزج بين إبداعات الأشرطة و التلفزيون.

الفرق الآخر هو أن الأنشطة اللحيوية كانت تحقق فتوحات إلهية متسارعة. و كان يسمح بانتقاد ثياب المرء أو مشيته أو أفكاره و لكن عندما تنتقد لحيته فإن الأمر يثير اعتصاما في الجامعة و يتم إصدار فتوى سريعة بكفر الساخر من اللحية. و هكذا مع مرور الأيام أصبحت اللحية تحتل وضعا لاهوتيا مرموقا، و تم تخصيص عرش صغير لها في السماء.

طبعا الأمر لم يكن هكذا في قديم الزمان. يجب أن نكتب الآن تاريخ اللحية. فاللحية، مثلها مثل جميع الأنبياء، أتت من الأسفل قبل أن تصل إلى مقام رباني. و في القديم ناضلت اللحى كثيرا و تعذبت. فعندما أصبح الإنسان عاقلا كان أول شيئ فعله هو أن حلق لحيته. يعتقد الآن أن الفرق بين الهومو سابينس و الهومو سابنس سابنس هو أن الأخير كان حليقا. و هكذا بدأت الحضارة مع اللحية المهذبة. إن تاريخ الإنسان هو تاريخ تهذيب اللحية و ضبطها. التاريخ هو تاريخ بروز أو اختفاء اللحية.

في العصر القديم حدث اتفاق سياسي بين اللحية و الذقن تم بموجبه تحديد قانون اجتماعي للحية. كان هنالك نوعان من اللحية. كانت هنالك اللحية المهذبة و كانت هنالك اللحية المشاكسة. و لكن الحقيقة أن القضية كانت قضية طبقية- بالإستئذان من صاحب لحية مشاكسة هو كارل ماركس. كان النبلاء يهذبون لحاهم بالشفرات الحادة الفخارية و الحديدية، و هكذا كانت لحية سكان القصور في فارس معدةعلى شكل طبقات شَعرية متدرجة و مقلمة بعناية. و عندما كنت تقابل أحد نبلاء ساسان فإنك كنت تقول له: أهنأك على براعة حلاقك. و كان الأمر يحمل إطنابا كبيرا- بعكس أيامنا- لأن الحلاق كان عبدا مملوكا، و كانت براعته تعني غلاوة ثمنه.

أما اليوم فلا تعني براعة الحلاق شيئا لأحد. و لقد فطن الحلاقون الموريتانون للأمر و لم يعودو يؤدون عملهم بمهارة. و أصبح المرء يعود من عند الحلاق ليقوم بحلق رأسه في الدار بعد أن لاحظ أن الجميع بدأ ينظر إلى رأسه باستغراب و أحيانا يسمع ضحكات جماعية ما إن يخرج من جماعة كان فيها. وهكذا جاء الحلاقون الجزائريون و المغاربة و أعلنوا الإطاحة بالسلطة الحِلاقِية الموريتانية و الشروع في مرحلة انتقالية حلاقية يسيرون فيها حلق رؤوس الناس لحين قدرة الشعب الموريتاني على حلق رأسه بنفسه. و هكذا أصبحت الحلاقة الجيدة ترتبط بموسيقى الراي و الشاب خالد و الشاب نصرو و الشاب حسني...

المهم أن النبلاء كانو يهذبون لحاهم، لأنه كان لديهم من يهذبها لهم. أما الفقراء فقد كانوا يتركون لحاهم تنمو بشكل كثيف. و هو ما كان مفيدا في تهريب الحشيش و الإختباء من الوحوش و التلحف في الليل و تربية البق و القمل إضافة إلى إخافة أطفال روما و البندقية و نزع الاعترافات من الأسرى، إذا تمت إضافة تكشيرة و انتهارة قوية. و كتبرير للحاهم فقد قام سكان الأسفل الطبقي بربط اللحية بالرجولة و بدؤوا في ممارسة نوع من الارهاب الفكري ضد الحليقين الكازونوفيين. في الطبقات السفلى كانت استخدامات اللحية ثورية. بل إنها كانت تستخدم في صيد السمك و الفراشات قبل بيعها لعلماء الحشرات في عهد النهضة.

و لكن تماما كما نجحت اللحية في مجالات فإنها فشلت في مجالات. ففي القرن العشرين فشل الملتحون في جميع أنواع الرياضة فعندما كانوا يلعبون كرة القدم كان الحَكَم يسارع إلى معاقبتهم بالتسلل كلما تعدت لحاهم خط التسلل رغم أن بعضهم كان يبقى دون الخط بعدة أمتار، أما في المصارعة فإن خصومهم كان يمسكونهم من لحاهم و يصرعونهم على الحلبة بقوة؛ و في مصارعة الثيران كان الثور يهاجم اللحية بدل قطعة القماش الحمراء، وكان يأتي بروح الملتحي-الماتادور في كل جولة. لهذه الأسباب لا يوجد مصارع ثيران ملتح. و لسنوات لم يفهم الناس نجاح الثور في قتل الملتحي كل مرة، و لكن بطبيعة الحال و في انتظار اكتشاف السر تم إصدار فتوى بتكفير الثور لأنه يعادي الملتحين أكثر من الحليقين. و لكن من منظور الثور فإن القصة كانت واضحة و لا تحتاج إلى تفسير. الثور لا يرى الألوان و بالتالي فلا عبرة لدية باحمرار القماش، و كان يعتقد أن اللحية الكثة قماشا أيضا. و لم يكن يتوقف دون ذقن الماتادور-اللحية.

المهم أنه مع الفشل الذي حدث للحى في الميادين الحياتية المهمة ولدت حركة حليقية تعيد العالم لعهد الإنسان العاقل. تعرف هذه الحركة في التاريخ باسم العلمانية. و لكن الحقيقة أن القضية لم تكن أكثر من مقاربة لشَعر الإنسان و اعتباره مسألة شخصية بدل ان تكون أمرا إلهيا. و هكذا في يوم و ليلة تم اجتثاث مليون لحية و إلقاءها في البحر، و فجأة أصبحت الشوارع مضيئة وواضحة بسبب اختفاء الأجساد السوداء التي كانت ملتصقة بذقن الإنسان و حنكه و صدره. يسمى هذا العصر في التاريخ بعهد الأنوار، بسبب الوضوح الذي نجم من اختفاء اللحية من الحياة البشرية.

لقد أعطى عصر الأنوار ثقة للإنسان في نفسه و أشعره بقدرته- بل و حقه- في التخلص من الشعر الذي ينمو في الصباح على ذقنه. قبل هذا العصر كانت العقلية الإقطاعية قد سلمت بأن مابين صدر الإنسان ووجهه هو إقطاع عقاري لللحية بتفويض إلهي. و كان يعتقد أنه عندما ينزع الإنسان لحيته فإن ميليشيا من العفاريت و الجن ستعاقبه. و في أوساط معينة كان يعتقد أن العقل يقع في اللحية و أنه بنزعها يُنتزع. و في العالم الإسلامي كان هنالك استغراب من "لحية طالت على ذقن جاهل". و كان الأمر أعجوبة العالم الثامنة. و لكن مع السقوط المذل للحية غداة عصر الأنوار انتهى تاريخ طويل، و تمت مطاردة اللحى في الشوارع القريبة من الجامعات و الكليات ثم تواصلت المطاردة حتى هربت آخر اللحى إلى الأديرة و الأبرشيات و الخانقات. هربت اللحية من المدينة إلى القرية، من السهول والبطاح إلى الهضاب و التلال، و من البلاط إلى المحظرة. و أطلق العالم تنهيدة كبيرة. و تحولت التهيدة إلى بخار. و ارتفع البخار. و نزلت الأمطار.

في العالم الإسلامي حدثت قصة مختلفة. إن الإسلام لا يحب المواقف الراديكالية المطلقة، ولذا لم يكن الحديث هو عن لحية و ذقن بل بين لحية و لحية. و في بداية الإسلام كانت اللحى المهذبة هي المسيطرة. و في الحقيقة فإنها كانت تخدم فلسفة الإسلام، لأن اللحية المهذبة كانت تأخذ مكانها في الكون الذي يسبح كله بحمد الله في انتظام و في اختلاف. و هكذا ظهرت لحى مختلفة في القرن الأول. كانت اللحية المشذبة عند المعتزلة تشاهد في المجالس العلمية بوقارها و انفتاحها العظيم، فهي كانت لحية "مخلوقة" كأي شيئ آخر، ولذا فهي لم تكن تتحدى التاريخ، وكان مبدأ أنها مخلوقة يعني إمكانية تغييرها. تعايشت هذه اللحية مع لحية إخون الصفا و الإشراقيين و الحلوليين. هذه اللحى الأخيرة أيضا لم تكن في صراع مع التاريخ. كانت لحية منسبلة على الذقن و متماهية معه و جزء من الجسد و ليس من السماء.

فجأة حدثت أشياء سريعة. تغيرت السياسة و أحرقت المكتبات و ظهر خلفاء من طينة أخرى. و فجأة، ذات صباح استيقظ المسلمون على لحية جديدة في الشارع. لا يعرف أحد كيف أتت هذه اللحية و لا من أين، رغم أن الناس نظروا في الفضاء. ربما قدمت من كوكب أورانوس. كانت هذه لحية سوداء متوازية الأضلاع مع وجود شذرات منها منبعثة بشرر من كل ضلع. كانت لحية قاسية و معادية للتاريخ، و فوق كل هذا كانت تزعم أنها خليفة الله في الأرض. لم يقدر أحد على مد يده إليها لأن الشحنات السالبة و الموجبة فيها كانت تصعق كل شيئ. و كانت تمشي في اعتداد و ثقة ربانية كأنها ناقة صالح. اختفت آلات الحلاقة و تعطت أجهزة الأسطرلاب و ظهرت كثير من السيوف و السياط و خاف الإنسان و ارتجف و دخل داره كئيبا و طالت لحيته و تفرقت في البيت، و أصبح العالم قاسيا.

في التاريخ الإسلامي يسمى هذا بعصر اللحية و يسميه المؤررخون الأغبياء بعصر الإنحطاط.

لقد انتهى عصر الانحطاط بتعاون عالمي. فقد اشتعلت الثورة فجأة و كان أول شيئ فعلته هو أن أتت على اللحى الكثة ذات صباح باكر. و تم طوي الصفحة السوداء و فتح صفحة نورانية جديدة كما رأينا. في الصباح كان الثوار الجدد حليقون يجلسون في المقاهي ينظرون في الصحف مشكلين "المجال العام" الذي أغرم به هابرماس لحد الهيام. و لكن حليقي هابرماس هؤلاء لم يكونوا هم من غَيَّرَ العالم. الذي غَيرَ العالم كان الشارب.

أوه على ما فعله الشارب بالعالم. في كل مكان كان الشارب المقاتل يغير العالم من الثورة الفرنسية إلى حروب الانديز إلى حروب بوليفار. كان الشارب رمز التغيير و التحرير. لم تجد البندقية ضد اللحى صديقا أكثر من الشارب. لذا ظهر الشارب مزهوا في عصر ما بعد اللحية. وتمت تسميته بشارب زاباتا. و زاباتا نفسه كان ثوريا في المكسيك. و في كل العالم تم الولع بشاربه البارز و المدبب من الجوانب. و في الصباح الباكر أصبح الليبراليون و الاشتراكيون والديمقراطيون بشواربهم أما الملكيون و رجال الكنيسة فقد بقوا خارج التاريخ. بل و قاموا بمؤامرات دنيئة ضد الشارب الحر. ففي الأبرشيات والمحاظر حافظوا على العادة المذلة للشارب الحليق و اللحية المتبعثرة. و في أحيان كثيرة حافظوا على شارب هتلر جنبا إلى جنب اللحية المتبعثرة. هتلر نفسه لم يكن غير لحية إصلاحية. و لا يمكن إنكار علاقة النازية و الفاشية باللحية. و البابا نفسه بارك هتلر و موسيليني. أما في موريتانيا كان يشاهد ِلمْرَابِطْ أو مدرس الكتاتيب في مرآب ديار الأغنياء و هو ينقص من جوانب شاربه على مرآته الصغيرة حتى يغدو هتلر ملتحيا. و لكن هذه النازية المحظرية لم تكن جوهر الأشياء فقد أضاف الملتحون العنفقة الطويلة المعروفة محليا بـ"متتة" كنوع من التحصن ضد الفتوحات التي قامت بها الشواب و الحليقون.

و كرد على العنفقيين فقد حاول بعض الاشتركيين و الفوضويين في الغرب و الشرق الاتيان بنسخة متطرفة من شارب زاباتا. و هكذا أتوا بما عرف في الغرب بالشارب المِقْوَدْ الذي كان يمتد بشكل منحني و كبير على عرض الأشداق. و لم تنجح التجربة أكثر مما نجحت به في الشام و مصر. ظهر "الشنب" كرمز جديد للرجولة. وكان العمدة و الأغا و حتى الباشا يُنتخب بحسب كِبر شنبه، الذي كان هو يُقسم بحقه كل ما جد الجد بأنه سيفعل أو يفعل. و لم يكن في المدينة حق أكبر و أجل من "حق الشنب".

كل هذا لم يعق المسيرة الظافرة للحليقيين والشواربيين. قاموا بجميع عمليات التغيير و الثورات. عادوا إلى أرض الاسلام حيث التحف المسلمون لحاهم و ناموا لقرون و أيقظوهم. و استيقظ المسلمون على الحليقين يحكمونهم و يجلسون في الفضاء العام يقرأون الصحف (غير الصفراء) و يكتبون الكتب (غير الصفراء). جميع الفتوحات حدث بفعل هؤلاء. تم بناء مدن جديدة ووضع أنوار في الشوارع و بناء مكتبات و جامعات و تم إنقاذ الفقراء و المجتع من الخوف و الارتعاش. و انتقم المسلمون أخيرا من هولاكو.

و صحيح أن شوارب سيئة قفزت إلى المجال، وخصوصا إلى الحكم. كانت هذه شوارب ستالينية حكمت كل العال الاسلامي من خلال لجان ثورية أو انقلابية. و لكن في الأسفل كانت توجد شوارب مسالمة ولم تكن تفعل من الضرر غير أنها عندما تشرب الزريق فإنها كانت تغطس في القدح لتخرج بيضاء الجوانب.

و بطبيعة الحال فإن جدلا ثار في الشارع حول الموضوع. كان الشواربيون رجال الإدارة و خريجو المدارس أما اللحيوين فكان سكان الأعالي و السهول في أدغال البلاد. لذلك لم يكن الجدل مباشرا.

في أدغالهم كان اللحيويون يشربون الأتاي و يسخرون من الحليقين بأن رجلا اعتاد على حلق لحيته مرارا فلما عجزت عن البروز برزت من داخل فمه. و كان اللحيويون الذين لم يكونوا دوما أغنياء في الفكاهة يضحكون من هذه "النكتة" حتى تسيل دموعهم. أما في مجالاتهم العامة فقد كانوا يحصلون على تعزيات من نوع التعميم العجيب الذي أطلقه داعيتهم الشهير بأن "كل من يقوم بـلحيته على شكل صفر سيجد صفرا يوم القيامة".

في المقابل كان الحليقون يقدمون سخرية حصيفة. و كانت هذه أساسا سخرية دفاعية أكثر مما هي هجومية. فقد كون الملتحون ميليشياهات دعوية كانت تقتحم البيوت بقنابل من الوعظ و التحذير من حلق اللحية و غيره من الكبائر. و كان هؤلاء يحتمون بقوة الدين ليتسنى لهم تقريع المرأ و لومه. و كان هذا في حد ذاته تبرير أنطلوجي لللحية. و لهذا الأسباب سكت الحليق أمام الملتحي الذي كان يخوفه بالنار و يرعبه و يدعوه للتقوى. و عندما أطال الملتحي في وصف الآخرة بكى الحليق و أجهش في البكاء بشكل مبالغ فيه. و بطبيعة الحال فإن الملتحي زاد من الوعظ ووجد لذة داخلية في تعذيب البشري أمامه لأن نجاح الواعظ يكمن في إبكاءه للموعوظ. غير أنه هذا المرة أشفق على الباكي و حاول التخفيف عنه: لا تبك كثيرا. اشفق على نفسك. كل ما عليك هو امتثال الأوامر الإلهية و اجتناب النواهي فلا تبكي كل هذا البكاء..

و هنا نظر إليه الحليق الباكي دون أن يتوقف عن بكاءه للحظة: سيدي ليس ما قلته أنت مما يبكيني. كل ما في الأمر أن لحيتك ذكريتني بلحية تيس كان عندي منذ سنوات و كنت أحبه بشكل عظيم..و لما رأيت لحيتك تذكرته.

كانت تلك أكبر ضربة تم توجيهها للحى الموريتانية.

عموما كانت لحية التيس معروفة في الغرب و لم تكن جزءا من اللحية الظلامية بل كانت تدخل في عصر التجديد الشَعري الذي أتى به عصر الأنوار. و جزء كبير من التاريخ كتبته لحية البوك أو الغوتي: لحية التيس. و الفرسان الثلاثة نفسهم كانوا لحى تيسية و هم يناضلون ضد الكاردينال ريشيليو.

هذا في حد ذاته دليل على أنه ما كل لحية فيزيائية كانت لحية أيديولوجية. فجميع الأنبياء بما فيهم ماركس و داروين كانوا ملتحين فيزيائيا. كما أن بعض الحليقين فيزيائيا كان ملتحيا أيديولوجيا أمثال جورج بوش و محمد عطا.

رغم هذا لا يمكن الإنكار أن هنالك تحولات فيزيائية و أيضا على مستوى التصرف. قديما كان الملتحون الموريتانيون الأولون يقفون للصلاة في أعلى التلة و كانت لحاهم المسبولة تعبر عن الإذعان للآلهة فكانت الرياح تهب عليهم و هم يؤدون الصلاة في أعلى التلة فتخفق لحاهم إلى الوراء مع درارعيهم النحيلة الذابلة فيبدون في وضعية مائلة كما لو أنهم فرقة مايكل جاكسون تؤدي رقصة الوقفة المائلة المناقضة لقانون الجاذبية. و لكن فيما عدى هذا التشبيه السيئ- من منظورهم- فإنهم كانوا يبدون في وضعية مهيبة،

أما اللحية المتبعثرة الحديثة فإنها كانت تمشي عكس الرياح و ليس معها. و كانت تبدأ من تحت العين مباشرة ولا تتوقف دون النحر بشكل عنيف و متهور. و كان الملتحون الجدد يأتون إليها بالزيوت من بلاد فارس و من الجزيرة و من باكستان.

و لكن ليس هنالك خلاف على أنها أتت من حيث لا يعرف أحد. و ربما سيأتي يوم و تأتي فيه مركباتها الفضائية فتركبها عائدة إلى كوكب أورانوس.

من يدري؟

عن مدونة أبو العباس ابرهام:

1 مشاركة

  • اللحية و الشارب/ ابو العباس ابرهام 8 آذار (مارس) 2012 17:18, بقلم أحمد

    يا مديري موقع وكالة كيفه ما كل ما يكتب ينشر وما كل غثيان نائم يتجاوز عنه وعن من يروج له ، أغاظكم من الدين انتشاره وغركم من سفيهكم الأحمق حقده وحنقه وجرأته على النيل من المتدينين بل ومن الدين ... أبشروا وانتظروا ما يسوؤكم فوالله ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار (من يغالب الله يغلب)... لم يعد مثل هذا الكلام صالحا ألجموا نزواتكم وإلا ... (موقن أنك لن تنشره يا ول مودي فقد بان حقدك وكشفت عن سريرتك)

    الرد على هذه المشاركة

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016