محمد ولد عبد المالك .. أمة في رجل
وكالة كيفة للأنباء

  • هو الزعيم النافذ والقامة السامقة محمد ولد عبد الله ولد عبد المالك، شِيخ بطن (أشفقات) الجكني، أشهر رجالات "لِمنيْحِر" السياسيين، وأحد أبرَز شيوخ لعصابة وزعمائها التقليديين في زمانه، وأكثرهم عدلا ونفوذا، كما تصفه الوثائق الفرنسية.
  • وُلِد - رحمه الله - عام 1890 ميلادية - قبل دخول المستعمر الفرنسي إلى موريتانيا ببضع سنين - من أسرة عرفت بالصلاح والاستقامة والإباء.
  • ظهرت عليه مَلامحُ الفتوَّة وعلامات النبوغ، وهو ما يزال صبيا، حيْث شبَّت فيه خصال حميدة وشيم نبيلة، كالصدق والأمانة والكرم والشجاعة، مع رجاحة العقل ودماثة الخلق، مما جعله ينال إعجاب بن عمِّه "الشِيخ" محمد السالم ولد عبد المالك، الذي أوفده نيابة عنه ليفاوض الحاكم الفرنسي، حول موقف القبيلة الرافض لتجنيد أبنائها للدفاع عن فرنسا إبان الحرب العالمية الأولى، وهو ما يزال في عقده الثالث، حتى أقنعه بالعدول عن قرار التجنيد.
  • يقول عنه محمد محمود ولد سيدي ولد عبد الله: إنه كان موطأ الأكناف ليِّن الجانب يألفُ ويُؤلَف بليغ الكلام فصيح اللسان، دامغ الحُجة والبرهان، صدوقا أمينا، لا يَحمله بُغض أحد على أن يَعيبه أو يقع في عرضه، كما لا يحمِله حُب أحد أن يَمدحه بما لا يستحق.
  • لمْ يحرص على الشهرة والجاه ولمْ يَسْتشرف لـ(مَشيَخة) قومه أو يتطلعْ إليها رغبة دون استحقاق، وإنما نالها بجدارة، لما أعْطِيَ من ملكوت السياسة وحسن التدبير وسداد الرأي، فكان لسان حاله يقول:
  • فإني وإن كنت ابنَ سَيد عامر ... وفارسِها المشهورِ في كل موكب
  • فما سوّدتني عامرٌ عن وراثةٍ ... أبى الله أن أسمُو بأمٍّ ولا أب
  • ولكنّني أحمي حِماها وأتقى ... أذاها وأرمي مَن رماها بمَنكب
  • تولى رئاسة قومه (أشفقات) وهو شاب حدَث السن فساسَهم أحكم سياسة، واشتهر بالعدل والحكمة، فعلا شأنه وعظم قدره، حتى شاع في الناس أنه شِيخ عافيةٍ ورجل دنيا وآخرة، فتداعى إليه الناس من مختلف البطون والقبائل، للانضمام لإيالته رغبة في عافيته وإعجابا بسياسته.
  • وقد أحيى أراضيَ شاسعة من ولاية لعصابة، بالزراعة وحفر الآبار وبناء السدود، وهو الذي اقترح على الفرنسيين غرس النخيل في عدة مناطق من لعصابة، كما حثهم على تلقيح المواشي الموريتانية حماية لها من الأمراض، بعد أن رآهم يلقحون مواشيهم، مما جعلهم يصفونه في وثائقهم بالرجل الاقتصادي.
  • عرف - رحمه الله - بالفطنة وقوة الفراسة إلى حد أنه لا تخفى عليه وجوه الجناة، كما كانت له خبرة كبيرة وموهبة عالية بالطب البشري والبيطري، وهو الذي أنقذ حياة الفقيه عبد الرحمن ولد سيدي عالي الهاشمي من مرض سرطاني استشرى في ساقه حتى كاد يقضي عليه، بعد أن شخص حالته المرضية ووَفر له وسيلة نقل إلى مدينة "خَايْ" التي أجريت له فيها عملية جراحية ناجحة.
  • وعلى الرغم من أن محمد لم يكن "شِيخا" على عامّة قبيلته إلا أن نفوذه السياسي ومكانته عند الناس، جعلته يتبوأ مكانة كبيرة رفعته إلى مصاف الأمراء.
  • وفي مدحه ووصْف عدله، يقول الشاعر والأديب ماناه ولد محمد ضمن قصيدة طويلة:
  • محمد مَن إذا عُدت مَحامِده .... سَمَت محامِده به إلى زحَل
  • من لا يُرى أبدا مُضاعِفا عُشرًا...ولا يُرى جاره في الحبْس في خجَل
  • عُرف - رحمه الله - بخِفَّةِ الطبع ورقة المزاج مع حلم وأناة، فكان لا يغضب إذا استغضب ولا تستفزه العَواطِف ولا تهزُه العَواصِف، ومِن ذلك أن امرأة جريئة سألته بشكل مستفز: ما هو سِرُ ضخامة صدرك؟ فرد عليها بسُرعة البديهة (لكثرة ما استودَعْت فيه من زلقات وهفوات أبناء العم) فأصيبت بالخجل.
  • شهد له أعيان عصره بالسخاء وكثرة الإنفاق في سبيل الله، فكان يقضي الديْن عن المَدين المعسر، ويُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، حيث يقول عنه الشيخ التراد ولد العباس: (إن الناس تنفق وتعطي للمباهاة، ومحمد ولد عبد المالك ينفق ابتغاء وجه الله).
  • كان منزله - رحمه الله - مَحط الرحال ونزل الضيفان ومأوى للفقراء وعابري السبيل، يقول عنه المختار السالم ولد عبدي (إنه كان يبذل ماله ونفسه في خدمة قومه دون منٍّ ولا أذىً، ولم تنزل بهم نائبة من نوائب الدهر إلا كان لها بالمرصاد، كما كان رحمه الله لا ينام عن مشكلة حلت بهم قبل أن يفكِك خيوطها ويَجتثها من جذورها.
  • وقد أقسم ذات مرة أنه لم يَسْمح لإدارة المستعمر الفرنسي أن تسْجن أحدا من أفراد عشيرته منذ تولى منصب مَشيَختها، بغض النظر عن الخطأ الذي يرتكبه صاحبه تجاه الفرنسيين) وما ذلك إلا لقوة نفوذه وحنكته السياسية وبراعته في المفاوضات والأساليب الدبلوماسية.
  • وقد بلغ من نفوذه أن الحاكم الفرنسي لدائرة لعصابة، قرر ذات مرة أن يستجلب بعض العمال والمترجمين من مناطق أخرى، ليستبدلهم بأبناء المنطقة، إلا أن ذلك لم يرُق لمحمد ولد عبد المالك الذي تدخل وضغط على الحاكم، قائلا إن أبناء المنطقة أولى بالوظائف وأحق بها وأهلها.
  • يقول عنه أحمد خون ولد المصطف رحمه الله: (إنه كان مبارك الطلعة ميمونَ النقيبة، وقد بلغ من حظوته أنه يصطاد الغزلان قربَ أوتاد خيمته، وكأن القدر يجري وراء رغبته، هذا مع ما كان يتمتع به من المهارة في الرماية والقنص).
  • ومن حسن حظه أن اسمَه يوافق اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه يوافق اسم أبيه، كما أن بقية أفراد أسرته كانت تحمل بعض أسماء آل بيت النبي، مما جعل أحد الظرفاء حين يسلم عليهم يقول لهم ممازحا، كيف حالكم يا بني عبد المطلب؟! فيتهلل وجه محمد فرحا وتيامنا بهذا التشبيه، ثم يطأطئ رأسه احتراما وإجلالا لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
  • كان محمد - رحمه الله - مقداما جريئا لا يهاب إدارة المستعمر حين تظلم الناس وتسْطو على مُمتلكاتهم، ومن ذلك أن جماعة من حلفه دخلت في نزاع على قطعة أرضية مع جماعة أخرى، فأصدر الحاكم الفرنسي "كابريل أفرال" قرارا بإعطاء الأرض لمن لا يَملكها، لحاجة في نفسه! فجاء محمد إلى الحاكم وقال له: لقد بلغني أنكم أصدرتم قرارا يقضي بأن من ادعى شيئا أعطيَه، وبناء على ذلك فأنا أدعي مِلكية مكتبك هذا فسَلِمْنيه!
  • فقال الحاكم ما ذا تعني بما تقول؟ فقال إن خصومي ادعوا ملكية أرض من غير دليل، فأعطيتهم إياها دون بينة ولا شهود! فبُهت الحاكم، وأمر برد الأرض إلى أهلها.
  • يقول عنه الباحث محمد يحي ولد احرَيْمُ: (إنه كان له دور بارز في حل مختلف القضايا والنزاعات التي خاضتها قبيلته مع القبائل الأخرى، كما عرف باهتمامه بالشأن العام وتطلِعه للأخبار، إلى حد أنه لم يكن يقع شيْء في تلك المنطقة إلا وهو على علم به، حيث كانت له عيون ورسل يأتونه بالأنباء ليبْني عليها سياسته وتصوره للمشهد العام).
  • وكان من أمره أن إدارة المستعمر أقدمت على حبس عشرات الأشخاص ممَّن يَقضون مَضاجع الفرنسيين ويُعكرون صفوَ مزاجهم بتصرفاتٍ لا تروق للحاكم الفرنسي، الذي أوْدعهم في سجن ثقيل لا ماء فيه ولا مأوى، حتى مكثوا فيه أياما ذاقوا فيها الأمرين، تحت أشعة الشمس وفوق لهيب الرمضاء، مما جعلهم يستنجدون بمحمد ولد عبد المالك الذي كان خارج المنطقة حينها، فلما وصل إليه الخبر ذهب مُسرعا يَحث الخطى ويَواصل ليله بنهاره، حتى دخل إلى الحاكم الفرنسي، الذي لم يكد يراه حتى نهض من مكانه واستقبله بحفاوة وطلب منه الجلوس، فقال: كيف أجلس وإخواني يتصبَّبُ منهم العرق داخل سجنك؟ رافضا أن يستظل بظل قبل إطلاق سراح جميع السجناء!.. فكان له ما أراد، وبادر الحاكم إلى تلبية طلبه.
  • ولما علِم أحدُ أعيان لعصابة وأعلامِها البارزين، بخروج السجناء، قال كلمته المشهورة (ذاك مَعناه إنْ ولْ عبد المالك ادْخَل الأرْض).
  • كان - رحمه الله - حريصا على سمعة قومه، وحين استدعيَ إلى مَحفل سياسي بـ"اندر" من قبل الحاكم الفرنسي العام لموريتانيا بسان لوي، اصطحب معه بعض علماء وشعراء مجتمعه، حتى تكتمل الصورة وتمَثل القبيلة أحسن تمثيل، وهو ما يدل على حسن نيته، وصفاء قلبه من الكبر والحسد.
  • استدعي - رحمه الله - لحضور عدة مؤتمرات سياسية من بينها مؤتمر ألاك الشهير كما دعي عند وضع الحجر الأساس لبناء مدينة نواكشوط 1958 وقد تنبأ برئاسة المختار ولد داداه لموريتانيا.
  • اشتهر - رحمه الله - بالصدق والصراحة، فكان لا يخاف في الله لومة لائم، ولا تمنعه هيبة الناس أن يقول بالحق إذا رآه أو علم به، ومن ذلك أن خصومة وقعت بين جماعة من عشيرته وجماعة أخرى، فاستدعاه القاضي ليُدلي بشهادته عن أيهم أصدق في دعواه وأقوم قيلا، فشهد رحمه الله بما علم، وكان ذلك لصالح الجماعة الأخرى، ولم تجره الحمية والعصبية القبلية أن يشهد على باطل.
  • توفي محمد ولد عبد المالك - رحمه الله - عام 1960 في دكار ودفن به عن عمر بلغ 70 عاما، بعد أن انهار عليه سقف داره بمدينة كيفه، مما تسبب في موته فيما بعد، وبذلك طويت مسيرة قائد عظيم سَدَّ الفراغ وحمَى الذِمار، فكان شِيخ حِلة ورجل أمَّة.

  
وكالة كيفه للأنباء - AKI
2015-12-04 11:37:00
رابط هذه الصفحة:
www.kiffainfo.net/article10342.html