خمسة تحديات أمام استفادة موريتانيا من الغاز

الدكتور يربان الحسين الخراشي - خبير اقتصادي

توصف موريتانيا بكونها قد تكون تطفو على بحيرة من الغاز والنفط، إذ تشير الاكتشافات المعلنة إلى أن احتياطاتها تصل إلى أكثر من 100 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وأكثر من 500 مليون برميل من النفط، ومنذ الإعلان عن القرار النهائي للاستثمار بالنسبة للمرحة الأولى من حقل السلحفاة آحميم الكبير المشترك مع الجارة السنغال سنة 2018 عاش الشعب الموريتاني سنوات تأرجحت فيها مشاعره بين الأمل واليأس، وتباينت توقعاته بين الحلم بأن تصبح موريتانيا قطر إفريقيا، والخوف الشديد من خيبة أمل على غرار التجربة مع النفط (2006 - 2018). سردية اليأس والأمل لا تسيطر على عقول وقلوب الشعب فحسب بل تمتد لتشمل القائمين على الشأن العام، وهذا ما يعكسه الفشل الذريع للحكومات المتعاقبة في إدارة التوقعات. اليوم وبعد تصدير أول شحنة غاز من الحقل المشترك لا بد أن ندرك أن مسيرة تحويل الموارد المستخرجة من باطن الأرض إلى فوائد مجتمعية عملية معقدة وطويلة الأجل، وتنطوي على العديد من التحديات والمخاطر والمفاجآت نظرا للطبيعة التعاقدية مع الشركات الدولية، وكذلك نظرا للسمات الأساسية والتحديات الخاصة بإيرادات الغاز والنفط، والتي من أبرزها التحديات الخمسة التالية:

 
 

(1)

التحدي الأول: تدقيق التكاليف وتحصيل الإيرادات

قد تواجه الإيرادات خسائر تشكل تهديدا خطيرا لقدرة البلد على تحصيل أكبر قدر منها، نتيجة لاعتماد عقود الاستكشاف وتقاسم الإنتاج المبنية على استرداد التكاليف لتنظيم العلاقة بين الشركات والدولة، وهوما يشجع الشركات على تضخيم التكاليف لزيادة أرباحها، وحتى الآن تم الحديث عن زيادة  كبيرة في تكلفة المرحلة الأولى من المشروع كما أن اللجوء لشركتي "بي بي" و"كوسموس" لتمويل حصتي الشركتين الوطنيتين شركة المحروقات الموريتانية، وشركة بتروسن السنغالية قد يزيد الطين بلة مستقبلا، إذ سيتم تعويض القرض مع الفائدة من الإيرادات، وقد أشار تقرير مبادرة الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية في موريتانيا لسنة 2023 إلى أن قرض تمويل حصة شركة المحروقات الموريتانية مع الفوائد قد بلغ 495 مليون دولار، وهو ما يشكل حوالي 12% من إجمالي الدين الخارجي الموريتاني لنفس السنة. نقطة ضعف أخرى قد تستغل لتقليص إيرادات البلدين ألا وهي التوقيع على اتفاق حصري مع شركة "BP Marketing" لتتولى عملية شراء وتسويق الغاز الطبيعي المسال المنتج من الحقل المشترك، وهو ما يتيح مساحة أكبر أمام شركة بي بي للعب في مؤشرات الأداء المالي للمشروع وهوما يتيح الفرصة للتهرب الضريبي والاحتيال الضريبي أو غير ذلك من التدفقات المالية غير المشروعة.

 

وقد أظهرت تجارب دولية عديدة أن عددا من الدول عانت من قضية تضخيم التكاليف على رأسها إندونيسيا أول دولة استخدمت عقود الاستكشاف وتقاسم الإنتاج سنة 1966 تبنت سنة 2017 نظام "التقسيم الإجمالي" لإنتاج النفط والغاز  بدل نظام "استرداد التكاليف"، وكذلك الهند التي تخلت عن هذا النوع من العقود بعد  أن خلصت لجنة التدقيق الهندية إلى شبه استحالة إجراء رقابة فعالة على التكاليف التي تعلن عنها الشركات الدولية، وفي جمهورية الكونغو أكدت عمليات التدقيق أن 15 دولارا من كل 100 دولار من التكاليف القابلة  للاسترداد غير مبررة أو مبالغ فيها، أما في غانا فكانت إيرادات النفط أقل من نصف ما توقعه البنك الدولي في الفترة ما بين 2011 - 2018، وأحد الأسباب الرئيسية في ذلك هو ارتفاع تكاليف التطوير. ومؤخرا أعلنت موريتانيا والسنغال عن اتخاذ قرار بإجراء تدقيق مالي لتكاليف المشروع، وقد تكون هذه المعركة الكبرى لحكومتي البلدين خلال سنوات المرحلة الجارية.

 

(2)

التحدي الثاني: الإدارة الجيدة للإيرادات وتوزيعها

والحقيقة أن هذا التحد لا يتعلق بالغاز وحده بل يشمل عائدات الحديد، والذهب، والنحاس، والتربة السوداء، وكل عائدات الموارد النابضة، فموريتانيا هبة الموارد لكن للأسف تحولت إلى ضحية من ضحايا لعنة الموارد نتيجة لغياب السياسات الفعالة لإدارة العائدات رغم درجة التعويل العالية، حيث بلغت مساهمة القطاع الاستخراجي في تكوين الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2022 حوالي 24%، و30% من إيرادات الموازنة، و77% من إجمالي قيمة الصادرات المصدر الرئيسي للعملة الصعبة، ولعل اعتماد موريتانيا للقاعدة المالية من اليد إلى الفم، والتي تعني أن الحكومة تنفق كل العائدات المتأتية من الصناعة الاستخراجية خير دليل على سوء الإدارة، والحوكمة الضعيفة. هذه القاعدة المالية وإن كانت توائم البلدان التي تعاني نقصا في رأس المال لكن ثمة سلبيات خطيرة تطرحها على رأسها أنها لا تأخذ في عين الاعتبار مدى القدرة الاستيعابية للاقتصاد الوطني، كما أنها لا تهتم بمصالح الأجيال القادمة الذين لهم حق مماثل لحق الأجيال الحالية في الثروات الوطنية، وكذلك لا تأخذ في الحسبان الحاجة إلى ضمان الاستدامة المالية عند نضوب الموارد، والأخطر من ذلك أنها تعرض الإنفاق الحكومي لتقلبات حادة، ولنا في التذبذب الكبير لمساهمة شركة "اسنيم" في ميزانية الدولة خير مثال، حيث انتقلت من حوالي 12 مليار أوقية قديمة سنة 2015 عندما كان متوسط سعر طن خام الحديد تحت مستوى 60 دولارا للطن إلى 125 مليار أوقية سنة 2021 مع ارتفاع متوسط سعر الطن إلى حوالي 160 دولارا. وفي اعتقادي استغلال الغاز قد يعمق من إشكالية موريتانيا هبة الموارد وضحية من ضحاياها في نفس الوقت إذا لم تغير نظرتها وتعاملها مع هذه الثروات النابضة، وعائداتها المتذبذبة والمؤقتة. مثال آخر على سوء إدارة العائدات ويطرح تحدي كبير أمام الاستفادة من إيرادات الغاز مستقبلا يتعلق بتدفق كافة الإيرادات المباشرة المحصلة من شركات البترول والغاز إلى حساب الصندوق الوطني لعائدات المحروقات، الذي هو مجرد حساب مفتوح أثناء حكم المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية سنة 2006 في بنك فرنسا باسم الدولة الموريتانية، وقد أظهر تقرير مبادرة الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية لسنة 2022 اختلالات جسيمة تتعلق بتسييره في ظل غياب استراتيجية وطنية أو نص تنظيمي يحدد سقف المبالغ التي يمكن سحبها منه، وكذلك غياب ربط السحب بمشاريع أو بنفقات محددة ، ويبدو أن دوره الوحيد حتى الآن يقتصر على تمويل العجز في الميزانيات للتغطية على سوء إدارة الإنفاق الحكومي. ويبقى التحدي الأكبر والأخطر في مجال إدارة إيرادات الغاز هو أن مراكمتها خارجيا يحولها إلى ورقة ضغط تجعل من موريتانيا رهينة اقتصاديا في يد المستعمر السابق، الذي بات يترنح ويخسر يوما بعد يوم نفوذه ومصالحه في شبه المنطقة، ويحاول عزلها عن محيطها وعمقها الإفريقي، وهو ما يعني سجنها بين صحراء تكاد تبتلعها وبحر تكاد تغرق فيه.

 

(3)

التحدي الثالث: تحويل الإيرادات إلى أصول مستدامة

التحدي الأكبر والأخطر يقع في المرحلة الأخيرة من دورة الموارد وهو يتعلق بمعالجة تقلبات الأسعار وعدم الاستدامة عن طريق تحويل الإيرادات المؤقتة والمتذبذبة إلى أصول مستدامة من خلال استخدامها لبناء مستقبل أفضل للأجيال بالإنفاق الفعال في التعليم، والبنية التحتية من أجل استغلال موقع موريتانيا كمنفذ تجاري عالمي في العالم الجديد، وكذلك عن طريق إعادة استثمارها على أساس يجب أن يأخذ في عين الاعتبار تحقيق تعزيز العدالة سواء بين الأجيال وبين أفراد المجتمع أو بين مناطق البلد المختلفة عن طريق العمل على مشاركتها بناء على مؤشرات تنموية واضحة مع السلطات المحلية دعما للا مركزية ممثلة في البلديات وغيرها، ولا بد أن ندرك أن كون إيرادات الموارد ضخمة لا يعني بالضرورة أنها ستحدث تطورا وتنمية بل في غالب الأحيان يكون العكس، إذ لا بد من بذل جهد مدروس لتنويع الاقتصاد، وتوسيع القاعدة الإنتاجية، وجهد مضاعف وأكبر لتحسين قدرة الدولة على الاستثمار بكفاءة عالية واستدامة، وهذا ما يتطلب بناء قدرة جيدة في الاستثمارات المحلية. لقد آن الأوان أن ندرك أنه لا يمكن إرساء دولة اجتماعية اعتمادا على الهبات والديون، واستيراد الأساسيات من الخارج، بل لا بد من نظام تمويل ذاتي وكافي مستديم، وقد يكون من المهم في ظل صعوبة إرساء نظام الجباية الاجتماعية إنشاء صندوق للرخاء المشترك لتطوير التنمية المحلية من خلال تحويل تركيز المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء (التآزر) من مندوبية تعتمد فلسفتها في محاربة الفقر على سياسية نقل الدم (الإغاثة وتوزيع الأموال)،التي تؤدي إلى تراجع الكفاءة الاقتصادية، وتنامي الاتكالية إلى مندوبية تعتمد سياسية تكوين الدم عن طريق التخطيط الجيد والتوجيه الفعال لخيارات الاستثمارات المحلية الوطنية  خاصة الاستثمار الريفي، بحيث يتغير مسار سياسية محاربة الفقر من مسار الري بالغمر إلى الري بالتنقيط، وهو ما سيفضي إلى تحسين قدرة الدولة على الإنفاق بفعالية وكفاءة، وتعظيم الرفاه المشترك لكافة فئات الشعب. لقد آن الأوان لأن ندرك بأن مستقبل موريتانيا يكمن في النهوض بالريف بغية القضاء على التفاوت التنموي المناطقي بخلق أقطاب تنموية متخصصة، حيث يعيش الآن 90.2% من سكان ولاية كيدي ماغا في حالة من الفقر متعدد الأبعاد، بينما تقل هذه النسبة إلى 25% في ولاية تيرس الزمور، وكذلك من أجل خلق فرص عمل للشباب الريفي والحد من الهجرة الداخلية الخطيرة على مستقبل البلد في ظل الانفجار السكاني الإقليمي، حيث في أفق 2050 ستكون موريتانيا محاطة بأكثر من 300 مليون من البشر، بالإضافة إلى الحد من التقري العشوائي، والحد من الفقر في الريف، حيث يعاني 77% من سكان الريف الموريتاني من الفقر متعدد الأبعاد.

 

(4)

التحدي الرابع: خلق ترابط بين الغاز والصناعة الوطنية

يتعلق هذا التحدي بطور تعظيم قيمة المنتجات النفط والغاز بمعالجتها وتحويلها من مادة خام إلى منتجات أثمن، ومما لا شك فيه أن موريتانيا غير قادرة في المدى القريب على تطوير الصناعة البتروكيميائية نظرا لغياب البنية التحتية الصناعية واليد العاملة، ومع ذلك قد تكون أمامها فرصة لتعظيم الاستفادة من الغاز عن طريق خلق ترابط بين قطاع الغاز الناشئ وقطاع الصناعة الوطنية بتحويل الغاز إلى الطاقة من جهة من أجل خفض تكاليف عوامل الإنتاج (أسعار الكهرباء والنقل)، وتحسين إنتاجية الشركات الوطنية، وقدرتها التنافسية، وكذلك تحسين جاذبية الاستثمار الخارجي؛ ومن جهة أخرى بجعل الغاز دافع قوي للتقدم نحو الصناعة التحويلية في مجال المعادن التي تخلق قيمة مضافة أكبر، وفرص عمل أكثر، والأهم أن تخلق قدرة استيعابية أكبر للاقتصاد الوطني  يمكنها أن تمتص كل الأموال التي ستتدفق من الغاز بعد استغلال "بير الل"، وحتى الأموال المتأتية من مشاريع الهيدروجين الأخضر إن كتبت لها الحياة. وحسب المعلومات الرسمية تخطط موريتانيا لاستخدام الغاز لتوليد الكهرباء محليا وتحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في ولوج جميع الموريتانيين إلى الكهرباء في أفق 2030  لكن هناك الكثير من التحديات والمخاطر أمام هذا التوجه رغم أهميته نذكر منها على سبيل المثال لا للحصر تحد توفير الغاز كمادة أولية لتوليد الطاقة، حيث أن غاز الحقل المشترك مخصص تقريبا للتصدير مع إبقاء حصة متواضعة للسوق المحلي تبلغ 35 مليون قدم مكعب لليوم، وكذلك تحدي توفير الأموال اللازمة لإنجاز البنية التحتية الضرورية مثل تمديد أنابيب الغاز وبناء محطات الطاقة التي تعمل بالغاز، وتمديد كابلات الجهد العالي، لكن التحدي الأخطر يكمن في المبالغة في تقديرات الطلب على الكهرباء، إذ لا بد من الدقة في التوقعات على طلب الكهرباء على المدى المتوسط والبعيد، وخاصة لاستخدامه في مجال التعدين والصناعة، وكذلك التصدير إلى دول شبه المنطقة،  فالسوق الإقليمية مسارها غير مؤكد وقد لا توفر بديلا كافيا خاصة في ظل الظروف الجيوسياسية الجديدة ، ينضاف إلى ذلك أن هذا التوجه قد يشكل تقويضا لجهود موريتانيا الرائدة في مجال إنتاج الطاقات المتجددة بمحاصرتها باستثمارات كبيرة في مجال الطاقة الأحفورية من الغاز، وقد يكون من المهم الموافقة بين النمو القوي للطلب على الطاقة الأحفورية في المنظور القريب، والطلب عليها غير المؤكد والمحتمل أن يتراجع على المدى البعيد، ومع ذلك رفع هذا التحدي قد يفضي إلى تمكين موريتانيا من المساهمة في تطوير سلاسل القيمة للمعادن على مستوى العالم، ولعب دور أكبر في التحول الطاقوي العالمي، مما يرفع من مكانتها في العالم الجديد، وفي اعتقادنا أن طموحات موريتانيا في زيادة إنتاج الطاقة لا بد أن تتماشى مع الحقائق الجديدة لمشهد الطاقة العالمي.

 

(5)

التحدي الخامس: تجذر الفساد وانتشاره

سارت موريتانيا في نفس الهيكل التنموي الذي تركه المستعر، حيث الاعتماد على مناجم الشمال والصيد مع إهمال تام للثروة الحيوانية والزراعة عماد الاقتصاد الريفي، وهو ما أسس لنظام اقتصادي ريعي يلازمه فساد كبير، فكما يقال الفساد والاقتصاد الريعي وجهان لعملة واحدة، لأن الدولة ذات الاقتصاد الريعي  ينحصر فيها دور النظام الحاكم في الغالب على جمع العائدات، وإعادة توزيعها بطريقة لا يهم فيها التوزيع العادل بل ما يهم هو ضمان بقاء النظام عن طريق شراء الذمم، وضمان الولاء السياسي، ولذلك تميزت موريتانيا بأنها تمتلك سجلا من الفساد المنهجي واسع الانتشار، والمتجذر في كل القطاعات، والأخطر من ذلك أن الفساد في موريتانيا بات يتمتع ببيئة اجتماعية حاضنة من الشعب لا يضاهيها شيء، حيث أصبح المسؤول الفاسد يتمتع بحظوة ووصاية اجتماعية وسياسية وربما دينية كبيرة، ويأتي ترتيب موريتانيا في المرتبة 130 من أصل 180 دولة على مؤشر مُدرَكات الفساد لعام 2024 ، كما حصلت على 22.9 من أصل 100 نقطة بالنسبة لنزاهة الحكومة، و28.1 من أصل 100 نقطة بالنسبة للكفاءة القضائية وفق مؤشر الحرية الاقتصادية العالمي لسنة 2024، ويرجع ذلك إلى طبيعة النظام السياسي الذي يركز على تقسيم الكعكة أكثر من صناعتها، وهو ما يجعل الأقلية المتحكمة والمحتكرة للسلطة تعيش نعمة الثروة بينما يعيش بقية الشعب (حوالي 95% من الشعب) نقمتها، وفي اعتقادنا أنه إذا كانت الثورة تأكل أبناءها كما يقال، فإن منظومة الفساد تأكل رجالاتها، وخير دليل على ذلك ملف العشرية، الذي أظهر للشعب الموريتاني رأس جبل الفساد، الذي بات يشكل أخطر وأصعب التحديات أمام استفادة البلد من عائدات الغاز، وغيره من الموارد الجيولوجية، ولا مفر اليوم من تبني التطبيق بصرامة لقانون العزل السياسي والإداري لكل مفسد مهما كانت مكانته وخبرته، ولعل أول خطوة في هذا المجال تكمن في التخلص من المسؤولين الذين توارثوا أخطاء كل الأنظمة، وغير قادرين على التعلم من الماضي،  فمن يبني على ضيق الأفق واليأس لا يمكن أن يصنع الأمل المنشود الذي طال انتظاره خاصة بين فئة الشباب التي  تشكل أكثر من 70% من سكان البلاد.

 

يشكل نظام التعاقد ومنح الرخص السليم والشفاف الخطوة الأولى باتجاه جني منافع الاقتصادية المتأتية من الغاز وغيره من الموارد، وقد تمت هذه الخطوة في ظلام دامس وراء الأبواب المغلقة، وتم اختيار نوع من العقود يتيح شبه سيطرة شاملة للشركات الأجنبية على مفاصل قطاع النفط والغاز، مما يسمح لها بتضخيم التكاليف، وتعظيم أرباحها؛ أما الخطوة الثانية فتتمثل في التعامل مع الإرادات مهما كان حجمها وللأسف تتعامل الحكومة الموريتانية بقاعدة من اليد إلى الفم على الأقل مع الإيرادات المتأتية من الموارد المعدنية ، والحاجة ماسة اليوم إلى إدخال القواعد المالية للسياسة المالية، والتي من أهمها تحديد آلية تسعير الحديد والغاز مثلا لأغراض الميزانية، مع تحديد نسبة الإنفاق للناتج المحلي الإجمالي، وتحديد سقف الديون، واستحداث الصناديق الخاصة كصندوق الرخاء المشترك للتنمية المحلية، وصندوق الاستثمار الاستراتيجي للأجيال، ولا بد أن ندرك  بأنه لا يمكن للتنمية الاقتصادية المستدامة  أن تتأتى من استخراج الموارد وحسب مهما كان حجمها بل على النقيض من الاعتقاد السائد، فكون إيرادات الموارد كبيرة  قد يكون ضرها على الاقتصاد الوطني أكبر من  نفعها  في حالة عدم  معالجة  التحديات المذكورة أعلاه، والصناعة الاستخراجية لا تفسح المجال للكثير من الأخطاء، وعند إدارة عائداتها بشكل جيد يمكن أن تشكل فرصة للتنمية السريعة، وخلق المزيد من الازدهار للأجيال الحالية والقادمة، أما سوء إدارتها فقد يؤدي إلى تقويض النمو الاقتصادي، وربما إذكاء الصراعات الاجتماعية خاصة في البلدان المؤهلة لذلك طبيعيا، وكذلك خلق أضرار بيئية مستدامة. واليوم بات من الواضح أن موريتانيا وصلت إلى مفترق طرق، و قد يكون من المهم للحكومة الموريتانية النظر في هيكلة وقدرات المؤسسات والقطاعات التي تتولى مسؤولية إدارة ملف الغاز وغيره من الموارد على امتداد سلسلة صنع القرارات، ومن المهم أيضا تعزيز علاقات موريتانيا الخارجية فمن جهة عمليات اكتشاف واستغلال  النفط والغاز تتطلب مهام جديدة في سياسية البلد الخارجية، ومن جهة أخرى اليوم هناك عالم جديد يتشكل بمفاهيم اقتصادية وسياسية جديدة، وبدأ يعيد صياغة العلاقة المخلة والظالمة بين عناصر الإنتاج، وقد يكون لدول الموارد مكانة أكبر من مكانتها في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن الجدير ذكره في هذا المجال، ضرورة الخروج من سيطرة وهيمنة مكاتب الدراسات والاستشارات الأجنبية على القرار الوطني في مجال النفط والغاز والطاقة بصورة عامة، فأيادي هؤلاء بدأت تمتد لتشمل مجالات أخرى أكثر حساسية. لقد آن الأوان أن ندرك أن نجاح أي بلد في الاستفادة من موارده الطبيعية، يعتمد بصورة خاصة على قدرته في تحديد وتنفيذ سياسة واضحة ومتكاملة في المجال يؤمن بها ويدعمها ويستفيد منها أكبر عدد من المواطنين والشركات الوطنية؛ لقد آن الأوان أن ندرك أن إيرادات الصناعة الاستخراجية يجب أن تساهم مساهمة مباشرة في عملية النهوض بالريف لضمان عدم انتقال عدوى الفوضى والانقلابات في المنطقة إلى موريتانيا، ولتأمين عبور آمن لها إلى عالم ما بعد الهيمنة الغربية، وأن ندرك أن جوهر محاربة الفقر ليس في التخلص منه بل بمنع العودة إليه.

    

 

 

 

 

 

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.