دفن غير المسلم في مقابر المسلمين: بين فقه التمييز ومقاصد المواطنة/ محمد ولد الصحه

يثير موضوع دفن غير المسلم في مقابر المسلمين سؤالاً مركزيًا يتعلّق بحدود التعايش والتمييز في الإسلام، خاصة في ظل غياب نصوص وحيٍ صريحة تتناول المسألة. ومع أن جمهور الفقهاء على المنع، فإن هذا الحكم مبنيٌّ على اجتهادات فقهية قابلة للمراجعة، لا على نص قطعي، ما يفتح الباب للتأمل من جديد في ضوء المقاصد الكبرى للشريعة.

أولًا: غياب النص الصريح في الوحي
لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الصحيحة نصٌّ يمنع غير المسلم من الدفن في مقابر المسلمين. بل إن مسألة القبور لم تُشكِّل محورًا تشريعيًا مباشرًا في عهد النبوة، مما يدل على أن الشريعة لم تُقِم على هذا التمييز حكمًا تعبديًا لازمًا.

ثانيًا: الاجتهاد الفقهي وأدلته
استند الفقهاء في منع دفن غير المسلم في مقابر المسلمين إلى:

1. فقه التمييز العقدي: حيث يُنظر إلى المقبرة كمجال رمزي لهوية الجماعة، كما أن بعض النصوص تشير إلى عدم جواز الاستغفار للكفار بعد الموت، ما فُهِم منه ضرورة التمييز في كل ما يتصل بهم بعد الوفاة.


2. الإجماع العملي: جرى العمل في المجتمعات الإسلامية على تخصيص مقابر لغير المسلمين، وهو ما أصبح عرفًا اجتماعيًا له وزنه في الفقه.


3. القياس على الصلاة والدفن: فكما لا تُصلَّى الجنازة على غير المسلم، قِيْسَ على ذلك منعه من الدفن مع المسلمين.

 

غير أن كل هذه الأدلة اجتهادية الطابع، ولم تبلغ مبلغ القطع، ولم تُبنَ على نص صريح.

ثالثًا: صحيفة المدينة وسكوت الشريعة
لو كان ثمة قصد شرعي قاطع في المنع، لتضمّنته صحيفة المدينة، وهي الوثيقة التأسيسية للدولة الإسلامية، والتي تناولت بتفصيل دقيق حقوق اليهود وعلاقاتهم بالمسلمين. لكنها لم تتعرض لمسألة القبور، رغم أنها تناولت قضايا الدم والمال والنصرة. وهذا السكوت يُفهم منه أن القضية تُركت للعُرف أو للتقدير السياقي، لا للحكم الشرعي الملزم.

رابعًا: المقبرة بين الوظيفة العقدية والوظيفة المدنية
إذا كانت المقبرة ليست موضع عبادة، وإنما مكان دفن الأجساد، فهل يجب أن تُخضع لأحكام التمييز العقدي؟ أم أنها تندرج ضمن الشأن المدني الذي يخضع لمبدأ التنظيم والتدبير الاجتماعي؟
الراجح أن المقبرة أقرب إلى الوظيفة المدنية، وإن كانت تُحمَّل أحيانًا برمزية عقدية. وهذا يجعل حكم الدفن فيها خاضعًا للمصالح العامة ومقاصد التعايش، لا لمجرد الشكليات الرمزية.

خامسًا: في ضوء المواطنة ومقاصد الشريعة
من مقاصد الشريعة الكبرى: حفظ النظام، وتحقيق العدل، وإقامة السلم المجتمعي، واحترام كرامة الإنسان حيًا وميتًا. وإذا تعذّر فصل المقابر، أو ترتّب على المنع فتنة أو نزاع، فإن المصلحة في الدفن المشترك تُقدَّم على قاعدة التمييز، خاصة إن لم يكن القصد من الدفن الامتزاج العقدي، وإنما الضرورة التنظيمية أو مقتضيات الواقع.

خاتمة
الحكم بمنع غير المسلم من الدفن في مقابر المسلمين ليس محلًا لنص قطعي، وإنما هو اجتهاد فقهي قابل للمراجعة والنظر، خاصة في السياقات المدنية الحديثة التي تتشابك فيها الأبعاد الدينية والاجتماعية. وإن فقه المواطنة ومقاصد الشريعة يدعوان إلى قراءة أوسع للموضوع، توازن بين الرمزية العقدية وكرامة الإنسان، وتُقدّر الظروف الاجتماعية والسياسية لكل زمان ومكان.

الأستاذ الفقيه محمد الصُّحَّه دِيدي

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.