المؤسسة العسكرية كضامن للاستقرار الاستراتيجي في غياب الأحزاب السياسية
في الدول التي تفتقر إلى الأحزاب السياسية بالمفهوم البنيوي، حيث تُحكم الدولة بأنظمة ذات خلفية عسكرية منذ عقود، يصبح السؤال الجوهري: كيف يمكن ترسيخ الاستقرار وضمان استمرارية الدولة خارج إطار الولاءات الشخصية والتغيرات الظرفية؟ هنا، تبرز العقيدة العسكرية ليس فقط كمنظومة انضباطية، بل كإطار مؤسسي قادر على رسم استراتيجيات وطنية تقوم على ثوابت لا تتأثر بالأفراد، بل تستمد قوتها من المأسسة نفسها.
غياب الأحزاب ومسألة الشرعية
في الأنظمة الديمقراطية، تُناط عملية بلورة الاستراتيجيات بالأحزاب السياسية، التي تُعد بمثابة الجسر بين المجتمع والدولة، لكنها قد تكون أيضًا مصدرًا للاضطراب بسبب تبدل التحالفات والأولويات. أما في الدول التي تحكمها نظم ذات خلفية عسكرية، فإن غياب الأحزاب السياسية لا يعني بالضرورة غياب الرؤية الاستراتيجية، لكنه يفرض تحديات تتعلق بإدارة الشرعية السياسية وآليات صنع القرار بعيدًا عن الارتجالية.
في هذه الحالة، يصبح الجيش، باعتباره المؤسسة الأكثر تنظيمًا في المجتمع، الجهة الوحيدة القادرة على إنتاج سياسات عامة ذات بعد استراتيجي يراعي المصالح العليا للدولة، بدل أن يكون مجرد أداة في يد قيادات فردية تتغير بتغير موازين القوى الداخلية.
العقيدة العسكرية كإطار للاستقرار
تاريخيًا، لعبت الجيوش في الأنظمة غير الديمقراطية دور الضامن للاستقرار، لكنها غالبًا ما اصطدمت بمعضلة الانتقال من الحكم المباشر إلى بناء دولة ذات مؤسسات مستقلة. هنا يأتي دور العقيدة العسكرية، ليس بوصفها أيديولوجيا سلطوية، بل كمنظومة قيمية تهدف إلى حماية كيان الدولة من التقلبات السياسية.
تعني المؤسسة العسكرية في هذا السياق توجيه الجيش نحو صياغة استراتيجيات وطنية قائمة على:
1. الفصل بين الولاءات الشخصية والمصلحة الوطنية: بحيث لا تصبح المؤسسة العسكرية رهينة لقرارات فردية تعكس مصالح ضيقة.
2. إرساء سياسات دفاعية وأمنية مستقرة: تراعي التغيرات الإقليمية والدولية، دون أن تكون خاضعة لأمزجة القيادات المتعاقبة.
3. تحقيق توازن بين الحكم والإدارة: بحيث يظل الجيش قوة ضامنة، لا مجرد أداة تنفيذية بيد النخب المتنفذة.
من العسكرية إلى الدولة: نحو استراتيجية مستدامة
إذا كانت المؤسسة العسكرية هي الأكثر تنظيمًا في مجتمع تغيب فيه الأحزاب السياسية الفاعلة، فإن عليها أن تبادر إلى خلق بيئة سياسية منظمة، ليس عبر فرض الحكم العسكري المباشر، بل من خلال:
بناء نخب مدنية ذات كفاءة عبر دعم التعليم والتدريب المهني.
تشجيع مؤسسات الفكر الاستراتيجي القادرة على رسم سياسات طويلة الأمد.
الحفاظ على التوازن بين السلطة المدنية والإدارة العسكرية، بحيث يكون الولاء الأول للدولة وليس للأشخاص.
إن نجاح هذا النموذج يتطلب تحويل العقيدة العسكرية من مجرد أداة ضبط إلى منظومة قيمية تؤطر العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفق رؤية وطنية شاملة، لا تتحكم فيها الأهواء الشخصية، ولا تذوب في متغيرات اللحظة. بهذا، يمكن تحقيق استقرار مستدام، يكون الجيش فيه حاميًا لمؤسسات الدولة، وليس بديلاً عنها.
الاستاذ الفقيه محمد ولد الصحه