القصاص والدية في السياسة الجنائية الموريتانية: دعوة للمراجعة والتفعيل/ محمد الصحه

تشهد موريتانيا في السنوات الأخيرة تصاعدًا مقلقًا في معدلات الجريمة، وخصوصًا جرائم القتل، في وقت يفترض أن يكون للمرجعية الإسلامية والنظام القضائي حضورٌ قويٌّ يردع، ويعدل، ويُشعر الناس بالأمن والعدالة.

1. غياب تنفيذ القصاص

رغم أن القضاء الموريتاني يصدر أحكامًا بالقصاص، إلا أن عدم تنفيذ هذه الأحكام حوّل القصاص إلى مجرد نص قانوني معطّل، فاقد لفعاليته، ومجرّد من هيبته. وقد قال الله تعالى:
"ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون"
فالقصاص ليس فقط عدلاً، بل هو حياة للمجتمع، وردع للمجرم، وصون لحرمة الدم.

2. جمود مقدار الدية

منذ أربعين سنة لم يراجع مقدار الدية في موريتانيا، رغم التغير الكبير في الواقع الاقتصادي والاجتماعي. في الشريعة، الدية تُقوّم بالإبل، وهي معيار متحرك، يتغير سعرها وقيمتها، مما يجعل الثبات على مبلغ محدد لعقود طويلة مناقضًا للشرع ومجحفًا بحقوق أولياء الدم.

3. فوضى التعويضات وشركات التأمين

من أوجه الخلل أيضًا ما نشهده من فوضى في "التعويضات" التي تُفرض في بعض القضايا، بطريقة تفرغ الدية من معناها، وتُمعن في إهانة كرامة الإنسان، بل وتُظلم بها أسر المجني عليهم.
لذلك يجب إلزام شركات التأمين بدفع الديات على حقيقتها الشرعية، دون تحايل أو تهرب، ودون تقزيم للدماء التي أريقت ظلما.

4. المقاصة القبلية في الدماء

من الظواهر الخطيرة التي انتشرت مؤخرًا ما يُعرف بـ"المقاصة في الدماء" بين القبائل، حيث يتم التنازل أو التسوية باسم العشيرة أو الجماعة، دون اعتبار لحق أولياء الدم، وقد يكون بينهم قاصر لا يُعبأ برأيه ولا يُراعى حقه.

وهنا يجب على النيابة العامة أن تضطلع بدورها كاملاً، باعتبارها الحارس الأول لمصلحة القُصّر، والضامن لحقوقهم، والمسدّ لأبواب التلاعب والتواطؤ العرفي.

5. نحو مقاربة شرعية وعادلة

لا يمكن بناء سياسة جنائية رادعة دون مراعاة الأسس التالية:

تفعيل القصاص وعدم التساهل في تطبيقه عند تحقق شروطه.

تحيين مقدار الدية وفقًا لقيمة الإبل الحالية، كما تقتضيه الشريعة.

إلزام شركات التأمين بالدفع الكامل للديات الشرعية، وعدم ترك الباب مفتوحًا للتعويضات الهزيلة.

منع التنازل العرفي الظالم باسم القبيلة الذي يهدر الحقوق، ويُكرّس فوضى دماء.

دور قوي للنيابة العامة في حماية حقوق القُصّر وأولياء الدم، ومنع التلاعب باسم العرف أو التسويات القبلية.


إن حرمة الدم في الإسلام عظيمة، والتهاون في القصاص والدية يُسهم في تفشي الجريمة، وفقدان الثقة في الدولة، ويدفع الناس إلى أخذ حقوقهم بأيديهم، وهو ما ينذر بعواقب اجتماعية وأمنية وخيمة.

بقلم: الأستاذ الفقيه محمد الصحة ديدي

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.