في واقعنا الموريتاني المعاصر، نواجه إحدى أخطر الظواهر المهدِّدة لبنية الدولة وثقة المواطن، والمقوِّضة لقيم النزاهة والعدالة الاجتماعية، وهي ظاهرة الإثراء السريع دون مبرر مشروع. وقد اقترنت هذه الظاهرة – في كثير من الحالات – بتفشي تجارة الممنوعات، وعلى رأسها المؤثرات العقلية، حتى باتت بعض مظاهر الترف الفاحش تشير ضمنًا إلى المال الحرام لا إلى الكفاءة ولا إلى الإنجاز.
غير أن الجذر الأعمق للمشكلة يكمن في غياب التأسيس المعرفي لأصول التملك المشروع، إذ لا تكاد تجد لهذه الأصول ذكرًا في أي مرحلة من المراحل التعليمية في البلاد، وهو أمر مستغرب ومؤسف في آن. ومن ثمّ، فلا يُستغرب أن يجهل كثير من الموظفين العموميين – بل وبعض القائمين على إنفاذ القانون – الضوابط الشرعية والقانونية للتملك، والحد الفاصل بين الكسب المشروع وغير المشروع.
أصول التملك المشروع:
حدد الفقه الإسلامي والعقل القانوني السليم أصولًا مشروعة للتملك، يمكن حصرها فيما يلي:
١. العمل المنتج أو الخدمي، سواء أكان بدنيًا أم ذهنيًا.
٢. الإرث أو الهبة، وفق ما يُقِرُّه القانون والشريعة.
٣. العطايا العامة، إذا تم الحصول عليها بطرق قانونية شفافة.
٤. الأنشطة التجارية المشروعة، بشرط خلوها من الغش والمضاربات المحظورة.
٥. الرواتب والتعويضات الرسمية، نظير مهام محددة وبموجب قانون.
وما عدا هذه الأوجه، فإن التملك يعتبر مشوبًا بشبهة الحرام، خاصة إذا تعذّر تبريره أو تبين أنه وليد فساد مالي أو إداري.
مبررات استحداث قانون "من أين لك هذا؟"
في غالبية الدول الحديثة، يُعتَبَر سؤال "من أين لك هذا؟" أداة قانونية رئيسية في مكافحة الفساد وحماية المال العام. أما في واقعنا، فالسؤال مغيب تمامًا، لا في القانون ولا في الثقافة العامة، وكأن المال العام مشاع لا يسأل عنه أحد.
ولأجل ذلك، نقترح جملة من التدابير الإصلاحية العاجلة:
١. إصلاح المنظومة التربوية: بإدراج موضوع "أصول التملك المشروع" في مناهج التعليم، تأصيلًا للوعي المالي والقانوني.
٢. تشريع قانون صارم للإثراء غير المشروع: ينص بوضوح على تجريم الإثراء دون سبب معروف أو دخل معلوم، ويُحمَّل فيه المشتبه فيه عبء الإثبات، بحيث يُلزَم بتبرير أوجه اكتساب ثروته ومصادرها، انسجامًا مع قواعد العدالة وحماية المال العام.
٣. تحريم مصالحة الموظف العمومي المختلس: وذلك بنص قانوني صريح يمنع أي تسوية أو تفاوض خارج إطار المساءلة الجنائية، لأن المال العام ليس ملكًا خاصًا، ولا يجوز التنازل عن الحق العام فيه تحت أي ذريعة.
٤. مراقبة المال السياسي: لما يمثله من تهديد مزدوج على كيان الدولة؛ فهو من جهة يُستخدم كأداة للنفوذ الخارجي لشراء الولاءات وتوجيه السياسات العامة بما يخدم مصالح أجنبية على حساب السيادة الوطنية، ومن جهة أخرى يقوض الدولة من الداخل عبر تحريف الإرادة الشعبية، وشراء المواقع الحساسة، وتلويث القرار العمومي، مما يؤدي إلى فساد ممنهج يمس أساس التمثيل السياسي والنزاهة المؤسسية.
٥. تمكين الرقابة الشعبية: بإنشاء آليات رقمية للإبلاغ عن مظاهر الثراء غير المبرر، في ظل حماية قانونية للمبلّغين.
٦. تعزيز مؤسسات الرقابة والتفتيش: ومنحها صلاحيات التحقيق والتجميد الوقائي للأموال، مع تقارير دورية تنشر بشفافية.
٧. التحسيس الأخلاقي والديني: بتفعيل دور العلماء وخطباء الجمعة في توعية الناس بخطر أكل المال الحرام، وأثره على الفرد والمجتمع والدولة.
خاتمة:
إن استمرار التغاضي عن مظاهر الإثراء غير المشروع، أو التغافل عن مساءلة المتنفذين، لا يهدد فقط الاقتصاد، بل ينسف أسس الشرعية، ويُضعف ثقة المواطن في القانون، ويُغري ضعاف النفوس بالجريمة.
فالدولة التي لا تُفعِّل سؤال "من أين لك هذا؟" تُعرّض كيانها السياسي والاجتماعي للتآكل من الداخل، وتستبدل العدل بالفوضى، والحق زالولاء.