تُعد مسألة توحيد الرؤية من الخلاف العالي بين الفقهاء، أي الخلاف الذي لا يُحسم بدليلٍ قطعي، وإنما يُدار على توجيه الأدلة واختلاف المدارك، وقد تجاذبها في العصر الحديث بعد فقهي أصيل وبعد سياسي مستحدث، مما ضاعف من تعقيدها وسعة الاختلاف فيها.
أولًا: الخلاف الفقهي في توحيد الرؤية
وقع الخلاف بين العلماء حول ما إذا كانت رؤية الهلال ملزمة لجميع الأمة إذا ثبتت في موضع، أو أن لكل قومٍ رؤيتهم بحسب مطالعهم.
فذهب فريق إلى أن الرؤية إذا ثبتت في بلدٍ لزمت سائر المسلمين، وهو مروي عن بعض الحنابلة، ووجه الاستدلال عندهم عموم قوله ﷺ: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
وذهب الجمهور إلى أن العبرة باختلاف المطالع، وأن لكل بلدٍ رؤيته، واستدلوا بحديث كريب، وفيه أن ابن عباس رفض أن يأخذ برؤية أهل الشام قائلاً: "هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، مع أنه كان يعلم برؤية أهل الشام وثبوتها عندهم.
وهذا الخلاف قديم معتبر، وتوسع النظر فيه مع التقدم الفلكي وتيسّر المواصلات، ثم عاد ليتجدد بأبعاد جديدة في سياق الدولة الحديثة.
ثانيًا: صوم يوم عرفة والتكليف الزماني لا المكاني
صوم يوم عرفة، وإن ارتبط في الأصل بوقوف الحجاج بعرفة، إلا أن حكمه الفقهي عند غير الحاج مرتبط بالتاسع من ذي الحجة بحسب رؤية بلده، لا بمكان الحجاج.
فالتكليف بالصوم في يوم عرفة تكليف زماني، والمكلف مأمور بالصوم إذا وافقه عنده التاسع من ذي الحجة، ولا يضره أن يكون ذلك اليوم هو العيد في بلد آخر، فكما لا يُمنع من الصلاة في وقت طلوع الشمس في بلدٍ ما لمجرد أنه يوافق وقت الكراهة في مكة، فكذلك لا يُمنع من الصوم.
ثالثًا: البعد السياسي في توحيد الرؤية
في العصر الحديث، أخذ الخلاف الفقهي طابعًا سياسيًا وفكريًا أعمق، حيث وظفته تيارات فكرية متباينة في إطار مشاريعها السياسية:
فـالمدارس الإسلامية الحركية، لا سيما التي تؤمن بمشروع وحدة الأمة والخلافة الإسلامية، ترى أن توحيد الرؤية مدخل رمزي ووظيفي إلى وحدة الشعور، ثم وحدة الفعل، ومن ثم وحدة الانتماء السياسي، فـاتحاد الشعائر يُفضي إلى اتحاد السلوك والقرار، ويعزز لدى المسلمين معنى الجماعة والأمة الواحدة، في مقابل الحدود القُطرية المصطنعة.
وعلى الضفة المقابلة، ترى المدارس القُطرية الحديثة أن الرأي القائل: "لكل قوم رؤيتهم" ينسجم مع مفهوم السيادة الوطنية للدولة الحديثة، حيث لكل دولة أجهزتها وهيئاتها، ولا ينبغي أن تتبع قرار دولة أخرى في شأنٍ تعبدي سيادي كإعلان الصوم والعيد، وهذه الرؤية تستند فقهيًا إلى قول الجمهور، وتُوظَّف لحماية القرار الديني داخل الإطار الوطني.
وبهذا تُصبح الرؤية الفقهية هنا ذريعة لتمكين رؤية سياسية كبرى، فالفريق الأول يؤسس لوحدة الأمة، والثاني لتمايز الدول.
رابعًا: نحو تقييم علمي للمسألة
رغم ما في كل رأي من وجاهة وتأصيل، إلا أن الحسم الفقهي في هذه المسألة متعذر، إذ:
لا يوجد نصٌّ قطعيٌ في الثبوت والدلالة يُرجح أحد القولين حسمًا.
والأدلة الموجودة – من عموم النصوص أو حديث كريب – محتمِلة تحتمل التأويل والاستدلال من الطرفين.
فلا مجال للقطع فيها، بل هي من موارد الخلاف العالي السائغ، الذي لا يجوز فيه التشنيع، ولا منع العمل بالراجح في كل بيئة بحسب معطياتها.
خاتمة:
مسألة توحيد الرؤية مثال حي على تداخل الفقه بالسياسة، وتَجدّد استعمال الأقوال الفقهية في سبيل مشاريع سياسية كبرى، بين دعاة الوحدة وأصحاب السيادة القُطرية.
والفقيه المنصف يُدرك أن مدار الحكم فيها على الاجتهاد وتوجيه النصوص، لا على قطعٍ أو إجماع.
ويبقى القول الفصل: أن لكل بلد أن يعمل بالأصلح له، وأن اختلاف المطالع له أصل في الشرع والعقل، وأن صوم يوم عرفة تابع لرؤية البلد، لا لما يجري في غيره، والله أعلم.
الأستاذ الفقيه محمد الصحه ديدي