الصفحة الأساسية > الأخبار > كيفه في ذاكرة التاريخ / الحلقة الأخيرة

كيفه في ذاكرة التاريخ / الحلقة الأخيرة

الاثنين 25 حزيران (يونيو) 2012  00:12

هذا هو الجزء الاخير من المحاضرة القيمة للدكتور محمد المختار ولد سيدمحمد التي أوردناها من خلال حلقات ، والآن ننشر جزءها الأخير و الذي عنونه الدكتور المحاضر ب :

أمثلة من الأدوار العسكرية و الثقافية والسياسية للمركز.

ونعد القارئ الكريم بنشر هذه المحاضرة كاملة في وقت لاحق .

كانت النازلة الاستعمارية حدثا جللا تردد صداه في ربوع أرقييه وما يليها من تكانت، فانبرى علية القوم في مقدمة جيش المقاومة شاهرين السلاح في وجه الغزو الفرنسي ابتداء من سنة1904، في إطار ما عرف بالحرب الإستباقية التي قادها الأمير المجاهد بكار ولد اسويد أحمد بدعم وإسناد من كبار علماء المنطقة، ومباركة من الشيخ ماء العينين في الشمال.

انطلق بكار من منطقة باركيول مطلع فبراير سنة 1904 في اتجاه مركز مال في حدود البراكنة حيث يتمركز الفرنسيون ودخل معهم في حرب عصابات اعتمد فيها أسلوب الكر والفر، وسرعة المباغتة والانسحاب، وكان يهاجم الوحدات الفرنسية ليلا ثم يختفي نهارا، وعندما تلاحقه دوريات الفرنسيين يواجهها بأسلوب الكمائن.

وفي هذه المرحلة قاد الأمير، يؤازره ابنه عثمان بن بكار العديد من المعارك ضد الفرنسيين أهمها: معركة ميت في 17 فبراير 1904، ومعركة كوصاص شتاء 1904، وخلال هذه المعارك كانت المقاومة تتكبد خسائر مادية وبشرية كبيرة، وتسجل في المقابل انتصارات ملموسة، وتعرقل الزحف الفرنسي، وذلك بتحصين الممرات المؤدية إلى تكانت وارقيبه، والتحكم في نقاط المياه بالمنطقة.

وفي مواجهة الخطر المتزايد للمقاومة، عهد كبولاني إلى القائد Lestere de Rey بقيادة حملة عسكرية هدفها كسر شوكة المقاومة، واختراق دفاعاتها، واشتبكت هذه الحملة مع معسكر المقاومة الوطنية بقيادة الأمير عثمان نجل الأمير بكار، وقائده العسكري في العديد من المعارك، أهمها معركة دركل في 25 فبراير 1905، ففي صبيحة هذا اليوم طوّق المجاهدون وحدات الجيش الفرنسي في آفطوط، وتمكنوا من إلحاق خسائر كبيرة بهم طالت أرواحهم وممتلكاتهم، وتقدر المصادر أن المجاهدين تمكنوا من قتل ثلاثة عشر جنديا فرنسيا، وأن قائد الحملة د ري قد أصيب في المعركة بجروح بليغة في رجله شلت فاعليته القتالية، كما غنم الوطنيون مغانم كثيرة شملت البنادق والذخيرة، والجمال.

وكان طبيعيا أن تدفع المقاومة الوطنية ثمنا لهذا الانتصار، فقد استشهد العديد من رجالها، وخسرت الكثير من مواشيها، ومع هذا لم تمض إلا ثلاثة أيام على معركة دركل حتى هاجم المجاهدون من جديد فرق التموين المكلفة بإعادة تنظيم وتأهيل الحملة، مما أقلق الفرنسيين، وأربك خططهم التوسعية.

أدرك كبولاني أن عهد توسعه "السلمي" قد ولى، وأن المقاومة، وطبيعة المنطقة المتسمة بوجود العديد من الأودية والجبال، والغابات كلها عوامل في غير صالحه، فجرد حملة عسكرية قوامها120رجلا، بقيادة خبير الدروب فريرجانهFrère Jean، انطلقت من المجرية يوم 27 مارس 1905، وتعقبت مخيم الأمير إلى أن باغتتها على مشارف أضاة المنصور في موقع يسمى بوكادوم إلى الجنوب الشرقي من كيفه الحالية،وتمكنت الحملة، بعد هجوم مفاجئ، من تطويق مخيم الأمير وطلبت استسلامه، غير أن بكار رفض ذلك، على الرغم من صعوبة موقفه، وظل يقاوم إلى أن سقط شهيدا صبيحة الأول من إبريل سنة 1905، وكان يومها قد جاوز التسعين.

مثل استشهاد الأمير بكار منعطفا حاسما في تاريخ التوسع الفرنسي وكان بمثابة أكبر صدمة للمجاهدين خسروا فيها أهم عنصر قيادة وتوحيد وكان من أهم النتائج التي أسفر عنها استشهاده تفرق قوة إمارة إدوعيش التي عرفت عهد نفوذها وقوتها تحت قيادته، كما صودر الكثير من ممتلكاتها، حيث تفيد المصادر أن الحملة على أرقيبه قد حصلت على أعداد كبيرة من المواشي وكميات هامة من الحبوب، وأدت وفاة الأمير كذلك إلى تراجع بعض القبائل الموالية له، وإعلانها الخضوع للفرنسيين، بل إن الوثائق الفرنسية في تلك المرحلة تذكر وفادة أحد أبناء الأمير بكار، وهو الأمير الحسين إلى كبولاني، في وفد من أبناء عمومته لطلب الأمان.

ورغم ذلك فإن جذوة المقاومة في أرقيبه لم تخمد، فقد قاد الأمير المختار ولد عثمان وفد العشائر الذي قصد البلاط المغربي لطلب السلاح، واشتركت أغلب قبائل أرقيبه في حصار تجكجة، ومعركة النيملان سنة 1906، وتحتفظ الذاكرة الشعبية بأيام مشهودة في البيظ وأجار لعصابه وانواملين وتنشيبه لسيدي ولد الغوث، وسيدي ولد العربي، وسيد ولد بناهي، ومحمد الاقظف ولد الجوده وغيرهم، مما ساهم في جعل أرقيبه وأفله من آخر المعاقل التي نودي فيها بقصر الصلاة في زوايا الحمويين، ونفذت فيها أحكام الموت بحق المجاهدين.

وحين وضعت الحرب أوزارها، أو كادت، ولم يعد السيف أصدق أنباء من الكتب، عرفت المنطقة، أشكالا من المقاومة جسدتها الهجرات الجماعية التي يممت الديار المقدسة، ورسمت في الذاكرة العربية صورة مشرقة للشنقيطي من خلال زاد المسلم لابن مايابا، وأضواء البيان للشيخ آبه وغيرهم حتى أقر الفرنسيون على لسان المفتش بيري أنه لا يوجد مجتمع بدوي يبلغ مبلغ الشناقطة في العلم بالعقيدة والأدب والفقه والتاريخ وإنهم ليتحدثون العربية الفصحى أحسن مما يتحدث بها سكان تونس والقاهرة ولا تكاد تجد بينهم راعيا من أبسط الرعاة إلا ويترنم بالشعر الجاهلي..

و حين يتعلق الأمر بالتقاليد السياسية, فلهذه المنطقة في ذلك المشغل قدم راسخة منذ أيام المرابطين تعززت لاحقا بتجارب الأنظمة الأميرية في بلا طات إدوعيش و أولاد أمبارك، و في نموذج الحركات الإصلاحية التي تمثلها تجربة عبد الله ولد سيد محمود الحاجى في إقامة نظام سياسي يجمع الشتات القبلى, و يقيم الشريعة، ويصون الحرمات .

ولقد كان من نتائج هذا الإرث السياسي الغنى أن تميزت الممارسة السياسية في كيفه و أحوازها بقدر عال من الوسطية و الالتزام من جهة , ومن الفاعلية و الحضور الإيجابي من جهة أخرى, فقد بلغ عدد الناخبين في مركز كيفه سنة 1946 (212) وبلغ عدد المقترعين 187 صوت، منهم 101 لصالح أحمد ولد حرمه مقابل 85 لرازك، ولم تسجل حالة حياد واحدة، و كانت هناك بطاقة لاغية واحدة.

و كان مركز كيفه حاضرا فى رسم مستقبل الدولة قبيل الاستلال حين احتضن مؤتمر حزب الاتحاد التقدمي سنة 1955، وهو المؤتمر الذي أقر إعادة ترشيح سيد المختار انجاي لتمثيل موريتانيا في البرلمان الفرنسي، واستند المؤتمرون في ذلك إلى كون الرجل يمثل مكونتي المجتمع الموريتاني من أب وولفي، وأم سباعية، فضلا عن كفاءته الشخصية، ولاشك أن تاريخ أبيه في الدائرة قد شفع له عند علية القوم.

وفي عهد الدولة الوطنية، ساهمت كيفه بخيرة أبنائها في المواقع القيادية في السلم الوظيفي، منهم عشرات الوزراء والسفراء وكبار الموظفين، أذكر منهم مثالا لا حصرا العقيد المصطفى ولد محمد السالك رئيس اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني، الذي قاد تغييرا هادئا لم ترق فيه قطرة دم وساهم في إخراج البلاد من حرب الصحراء. والعقيد الشهيد أحمد ولد بوسيف الذي كان مثالا في النبل والشهامة والبطولة، وقاد الدولة في أحلك لحظات تاريخها السياسي، تغمده الله بر حماته، فذانك مثالان يستحقان التنويه.

وعلى مستوى المقدرات السياحية فإن المنطقة حبلى بالمواقع التاريخية والتراثية والدينية من آثار الحضارات القديمة والوسيطة ، والمدن الأثرية،ومسارات القوافل، والمزارات والأضرحة، وأحواش المحاظر العتيدة، وزوايا التصوف ودور التربية الروحية، وميادين معارك المقاومة، والمكتبات الأهلية، والمخطوطات النفيسة، والجبال الراسيات، وباسقات النخل، وصنوف الأنعام والحرث، والكفاءات العلمية في شتى صنوف المعرفة، مما يؤهلها لأن تكون قطبا تنمويا بامتياز.

وخلاصة القول إننا ما سعينا من خلال هذا العرض المتواضع، إلى إحياء درس المناقب الجهوية، ولا إلى اختزال وطن في مدينة، وإنما لتكون سنة حسنة يحذو حذوها الآخرون لينفض الغبار عن مكنون تاريخ البلاد، ويكشف النقاب عن قدرات ومواطن تميز هذا الإقليم، وما يزخر به من إمكانيات بشرية ومادية، هي بالضرورة في خدمة الوطن، والمصالح العليا للأمة.

الدكتور محمد المختار ولد سيدي محمد أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة نواكشوط مدير الوثائق الوطنية

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016