الصفحة الأساسية > الأخبار > من احسي بابو إلى القديمة (عندما تدور ذاكرة كيفة)

من احسي بابو إلى القديمة (عندما تدور ذاكرة كيفة)

الاثنين 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023  10:00

الحسن ولد محمد الشيخ

جذبت مدينة كيفة منذ تأسيسها اهتمام الباحثين والمستشرقين وغيرهم من الدارسين؛ وذلك لموقعها الاستراتيجي بين مدينة تجكجة مركز الاستعمار الفرنسي في موريتانيا سنوات دخوله الأولى و مدينة خاي المالية ذات الأهمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالنسبة إلى أهل كيفة. ويرجع الكثير من الباحثين هذا الإهتمام إلى التنوع السكاني، وطبيعة العادات والتقاليد ذات التداخل والتشابك الذي ولد تلاقحا حضاريا لا يخطئ المتتبع آثاره، و ليست المحظرة (الكتاتيب) والتيدنيت (آلة موسيقية تقليدية) إلا من الأدلة المادية على هذه الثقافة العالمة.

كما أن البيئة البدوية السائدة والنمط التقليدي المحافظ على الهوية والمنفتح في آن على الآخر جعلها مقصدا يثير الفضول .

لقد كتب الكثير من المهتمين عن المدينة ممن زاروها أو عملوا بها من أمثال الرائد الفرنسي افرير جاه Frére Jean والحاكم الفرنسي جابييل فيرال مؤلف كتاب Tambour du sable (1995 Ma deneure fut l’horison) Gabiel Féral والكاتبة الفرنسية ماريلا فيلاسانت صاحبة كتاب Parenté et politique en Mauritanie Mariella Villasante de Beavais والباحث الألماني المتأخر يوركن بوش Jurgen BUSH الذي استضفته في عامي ٢٠٠٧ و ٢٠٠٨ و زرت معه بعض الشخصيات المرجعية في المدينة، و بعض النساء المعمرات اللاتي يحترفن صناعة "حب المرقد" و هو حلي خاص بنساء كيفة كن يستخدمنه قديما للزينة.

و قد أرسل لي هذا الباحث فيما بعد بعض الصور الورقية من مؤلفه قيد الطبع "كيفا بيد" kiffa beads

هذا الاهتمام القديم المتجدد بالمدينة و تاريخها الثقافي، يجعل الباحث يحاول سبر أغوار السر، و فك طلاسمه، لعله يقف على حقيقة علمية تروي الظمأ المعرفي الثقافي و لو برهة. وللحديث عن المدينة لابد من التطرق إلى النقاط التالية :

١-أصل التسمية

يختلف المؤرخون في أصل تسمية المدينة، منهم من يرجعه إلى أصل افريقي من دون تأصيل، و منهم من يرده إلى الرواية القائلة بأن دورية فرنسية مرت بالمنطقة مع مطلع القرن العشرين، و لما سأل أحد الجنود عن المكان، ظن المستفسر أنهم يسألون عن الأشياء التي بين يديه فأجابهم : هذه كيفة. و تطلق كيفة على وحدة من ألياف نباتية تدخل في صناعة الحبال، تؤخذ من شجرتي "تبليت"و "تبننه".

و هذا أشبه بالخطإ الذي وقع فيه الأوروبيون عندما وصلوا استراليا و سألوا عن الحيوان المعروف اليوم بالكانغارو فأجابهم المحليون (كانغارو) بمعنى لم أفهم.

و يقول الوجيه صغيرو ولد السالك المولود سنة ١٩٤٠م "إن الفرنسيين أقاموا معسكرهم في البداية في مكان يسمى كيفة المالحة قرب واد الروظة (١٢ كيلومتر شمال غرب المدينة حاليا)، غير ان مياه المنطقة كانت مالحة، فأرسلوا في البحث عن المياه العذبة و وجدوها في احسي بابو، و هو الواقع في الطرف الشرقي من لمسيلة، فقرروا إقامة معسكرهم هناك على مشارف أدباي الموجود قبلهم. و احتفظوا بالاسم، فأطلقوا على المكان الجديد كيفة. و أصدروا تعميما بذلك".

و كان الشاعر الشهير سدوم ولد انجرتو الذي عاش في نهاية القرن ١٨م اي قبل دخول الاستعمار بأكثر من مائة سنة قد ذكر كيفة (بالكاف المكمكمة مع ياء ساكنة) في أشعاره الخالدة و هي موضع يوجد شمال غرب مدينة كرو حاليا؛ حيث يقول في إحدى روائعه :

كرو وكنديكه وبزار // وكامور وهذاك المطراح

و"كيفة" واسويح فنوتار // وولول وأوهام والبحباح

وكرني وأمحاوز لبيار // ذوك اديار أولاد الفحفاح

و يقول في نص آخر كثر إلقاؤه بذكر كيفة منطوقة بحرف الكاف :

گفات ظرك العربيه // خلات فالزر التلي

كبر اسمع والمزيه // فأمسيلت سورملي

إلى أن يقول :

وبكات "كيفه" ووطنه // ماسايل امنادم عنه

وانتاكات أمعطنه // لاورد جاه امدلي

أهاذيك نحليل عنه // وابگات تگبَ واينعلي

مما بفتح المجال لاحتمالين؛

- إما أن الاسم على المسمى، و بالتالي نستنتج ان التسمية سابقة لوجود المستعمر فيرجح ذلك رواية صغيرو ولد السالك
- أو أنها قراءة خاطئة، و القصد هو كيفة (بالكاف المكمكمة و الياء الساكنة)؛ ليعزز ذلك الرواية الأولى (كيفة من تبننه).

٢-النشأة و التأسيس

شكلت الحامية الفرنسية التي أقامها المستعمر قرب منطقة احسي بابو مع مطلع القرن العشرين سنة ١٩٠٧ النواة الأولى لمدينة كيفة. و يذكر الوجيه صغيرو ولد السالك بأن أربعة من المزارعين و هم معطل و اشريف و الصبار و اسغير قدموا من تكانت و أسسوا أدباي (قرية) قبل وجود المستعمر ب ٤٥ سنة. إلا أن المؤرخ محمد عالي ولد مودي لا يرى في تواجد أولئك المزارعين تقريا بقدر ما كان إقامة آنية دأب عليها المنتجعون و بعض المزارعين.

نصب الفرنسيون التاجر يب سيلا زعيما "لأدباي" الذي أصبح ملاذا آمنا للخارجين على سلطة القبيلة، فيما بات يعرف ب"اجمبير" أي التحرر المشتقة من كلمة جامبور ذات الأصل الولفي والتي تعني الحرية (liberté) و كان يب سيلا شخصا نافذا ذا حظوة و وجاهة عند المستعمر، و كان الوافدون إليه من شتى التجمعات البدوية يتمتعون بقدر من الحرية والاستقلالية المادية والفكرية أدت إلى تمازج مجتمعي انصهرت فيه كل الأعراق والأجناس، و ذابت فيه الطبقية إلى حد ما.

مثل حي القديمة (جامبور) البلدة التاريخية لمدينة كيفة، و كان لبعض الأسر العريقة فيه وجود قوي و دور محوري في النشأة والتأسيس، و مد جسور التواصل بالتعاطي الإيجابي مع المحيط القبلي البدوي، و من أشهر هذه الأسر : اهل موسى فوفانا و أهل مودي كامرا و أهل مامادو مانى و غيرهم؛ و هو ما أغرى الكثيرين بالنزوح من الريف للمكوث بالحي رغم مكانتهم الاجتماعية في أعلى الهرم القبلي المحافظ، و من أمثلة ذلك المصطفى ولد محمد محمود -وهو من أطلق على الحي اسم القديمة- و محمد عبد الله ولد اب.

و مع مرور الزمن، تمددت المدينة و استقطبت الكثير من السكان، و خصوصا سنوات الجفاف في ستينيات و سبيعينيات القرن العشرين. شكل ذلك ضغطا على حي القديمة فظهرت أحياء جديدة مجاورة مثل أدباي و أنتو و اخويندي و الجديدة و ألاك. و ضمت أحياء أخرى لها بعد تاريخي في الذاكرة الجمعوية، كحي اقليك ول سلمة الذي تأسس حول سد ترابي عريق يحمل اسم صاحبه، لاتزال آثار منزل الأسرة شاهدة على ذلك التاريخ الأصيل، و حي سكطار الذي دخل اسمه الأمثال الشعبية المتداولة في المنطقة؛ حيث يقولون عند المبالغة في قوة وضوح الشيء وظهوره "نار على سكطار" بدل القول الشهير "نار على علم" لعظم تلته و شموخها. و لما زار سيدي محمود ولد سيداحمد ولد باحمد وطنه كيفة أيام الاستعمار وصعد أعلى التلة، و هي مرتفع ترابي جميل يطل على المدينة، كان موقع سمره مع صحبه فوجده أصبح منتزها لأبناء المستعمر و أعوانهم؛ قال :

على سكطار إذ وقفت غدية

علمت بأن الله ذا العرش قادر

يساري ذو الأنوار و الفرع خلفه

و ذو مطر من بين ذينك طاهر

و باب على اليمنى يراه الذي رنا

به الروم حول الخندريس تسامر

فهذي ديار الحي مذ كان آمنا

له العز من دون الورى و المفاخر

فلما بدا الربع المحيل لمقلتي

و حال افتكاري و الدموع تناثر

تذكرت قول الجرهمي إلى الصفا

أنيس و لم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والدهور دوائر

٣-المعالم التاريخية

لن تفوت المتجول داخل مدينة كيفة تلك المباني العتيقة المشيدة بالحجارة و الطين، بأبوابها المقوسة التي تشبه الطابع الأندلسي، إنها معالم وآثار تاريخية تشهد على قدم المدينة و قوة حضورها السياسي و الحضاري .. هي مبان شيدها الاستعمار الفرنسي كدار القضاء التي بدأ منها التحقيق مع بعض التيجانيين الحمويين أيام الحاكم الفرنسي مونيي إثر حادثة أم اشكاك ١٩٤٠م قبل إحالتهم إلى مدينة ييليمانى المالية (الليوانة) التي شهدت محاكمات و إعدامات بأعداد كبيرة، و من هذه المباني أيضا مكاتب الحاكم و دار البريد و مبنى البيطرة والمدرسة رقم واحد و خزان الماء الكبير (chateau d’ eau) "شتدو" المنتصب حتى الساعة في قلب المدينة. و يذكر المعمرون من السكان أن "أمهات الطلح" العملاقة الموجودة حاليا قربه تعود إلى العهد الاستعماري الأول، و قد كانت محط رحال مراجعي الإدارة الفرنسية و مناخ جمالهم. و من الآثار كذلك مقبرة المستعمر الواقعة شمال شرق المستوصف المركزي. و يعتبر سوق حي القديمة الذي افتتح مع النشأة من أقدم أسواق البلاد قاطبة في العصر الحديث. و قد شكل مركزا تجاريا حيويا في المنطقة و رافعة اقتصادية قوية للسكان. و غير بعيد منه ينتصب المسجد العتيق الذي عمر القلوب بالإيمان من خلال الآذان و التراتيل الصادرة من مئذنته. و كان لإمامه ولد أب اسلوبه الخاص في توصيل رسالته الإرشادية، و لخطبه وقع بالغ الأثر في النفوس.

و من معالم المدينة مخابزها الأصيلة أصالة أصحابها، والتي ينبعث من مداخنها كل صباح عبق التاريخ صرفا صافيا لا ينفك يشد المرء إلى الذاكرة .. يتنسم عبير قوم مروا من هنا .. أكلوا الخبز معا، و شربوا الشاي من كأس واحدة. من أشهر هذه المخابز مخبزة كل من اشبيلو و معتوك و محمد ولد سعاد ....

٤- شخصيات تاريخية

أظهرت حقبة الاستعمار غطرسة و عنجهية واجهتها قوى شعبية عريضة بمقاومة ثقافية رافضة لكل أشكال التعامل مع الفرنسيين، وأخرى عسكرية كبدت المستعمر خسائر مادية و بشرية جسيمة، كان آخرها "اعمارت احديد" ولد عبد الله قبيل الاستقلال بقليل. يقول ابنه القاضي ولد عبد الله إنها استهدفت مجموعة من الفرنسيين في كيفة، قتل فيها أحدهم.

و في إطار المقاومة التي تتجلى أحيانا في الرفض أو العصيان، فقد بلغ الخلاف مبلغه بين الحاكم الفرنسي جابييل فيرال و الزعيم التقليدي محمد الراظي ولد محمد محمود سنة ١٩٥٢م .. اتجه الأخير إلى سينلوي (اندر) للتظلم، و عندما وصل تم اعتقاله على الفور. استنفر شيوخ قبائل المنطقة الشرقية، واتجهت مجموعة منهم إلى هنالك يتزعمها الأمير عبد الرحمن ولد اسويد احمد للمطالبة بإطلاق سراح محمد الراظي، و تحت الضغط استجابت سلطات المستعمر، و تم تحويل الحاكم الفرنسي جابييل فيرال عن دائرة كيفة إلى خارج الوطن. و يرى البعض أن تولي القاضي الفرنسي الجزائري الأصل المحاكمة هو ما سهل مهمة محمد الراظي. و قد أصبحت هذه الواقعة من الأحداث التي يؤرخ بها أهل المنطقة. كان محمد الراظي ولد محمد محمود و المخطار و لد أحمد ولد عثمان و الشيخ ولد الغوث و غيرهم من أهل الحل و العقد من أهم الشخصيات التاريخية ذات الأثر الكبير في جميع مناحي الحياة السياسية و الاجتماعية في المدينة. و كان لهم الدور الأبرز في نشر ثقافة السلم و التعايش المشترك رغم اختلاف وجهات النظر و تباين المواقف السياسية أحيانا.

و رغم الخلفية الاجتماعية لهم و التي تستمد من "الحلة" قوتها و سر نفوذها؛ فقد بنى كل منهم بيتا في مدينة كيفة جعله وجهة جماعته و ملاذ مستجيره و عنوان جوده و وجوده.

لقد تجلت المدنية في السلوك المنفتح الذي أبان عنه هؤلاء الشيوخ، حيث أظهروا تفاهما و ودية و ندية لسكان المدينة الناشئة الساعين إلى فضاء أكثر تحررا من أعراف القبيلة و محاظيرها.

و مع نيل البلاد للاستقلال ٢٨ نوفمبر ١٩٦٠م واكبت المدينة الحدث الأكبر بالاحتفاء و الانتصار لإرادة الشعب؛ فأظهرت الخريطة السياسية الجديدة للوطن نوعية حضور المدينة من خلال أبنائها الموظفين (مدنيين و عسكريين) ممن يشهد لهم التاريخ بالنزاهة و الإخلاص، و كان من أبرز هؤلاء الذين لعبوا دورا محوريا في مرحلة التأسيس كل من الرئيس المصطفى ولد محمد السالك قائد أول انقلاب عسكري في البلاد ١٩٧٨ و الرئيس أحمد ولد بوسيف أول رئيس وزراء ١٩٧٩ في البلد و من المدنيين الوزير يحيى ولد منكوس والوالي اشريف ولد محمد محمود .

٥- الاقتصاد

تعتبر منطقة "اركيبة" عموما مجالا رعويا بامتياز، إلا أن التقري المبكر في حي القديمة شكل فرصة ذهبية لممارسة الزراعة في وادي لمسيلة الكبير؛ فظهرت زراعة النخيل والخضروات. و مع تنامي الطلب على المنتوج الزراعي -بسبب الانفجار الديموغرافي— استجابت الأودية المحيطة بها؛ فتحقق الاكتفاء الذاتي من الحبوب و الخضر. و من أهم هذه الأودية بلمطار و واد الروظة و بوملانه ...

أدى وفود جماعات من تكانت إلى المدينة في وقت مبكر إلى نقلة اقتصادية كبيرة؛ لسيطرتهم على المجال التجاري الذي كان قبلهم يفتقد إلى الحيوية و التنوع، و من أبرز أولئك التجار لمهابة ولد المعلوم الذي استقر بالمدينة في العشرية الثانية من القرن العشرين و كل من الطالب ولد السنهوري و إسلم ولد تاج الدين و خطري ولد حمادي ....الخ ساهم ازدهار التجارة إلى خلق حس مدني؛ فشهدت المدينة طفرة عمرانية أضفت مسحة جمالية على المكان و طبعته بقدر من الحداثة و العصرنة .

٦-الثقافة

حاولت المدينة منذ نشأتها اللحاق بركب السائرين نحو خلق حضارة مادية مستقاة من ثقافة عالمة ترتكز على المشترك بين السكان، و تعززه من خلال المسرح و الموسيقى و الشعر و الرقص و الغناء؛ فعرف المسرح حضورا لافتا، احترافا و هواية.

و كان من أشهر الهواة المسرحيين الذين رسموا البسمة على شفاه الناس منذ بواكير الاستقلال الممثل الشعبي الطالب ولد سيد اعمر الذي كان يتميز بخفة الظل و حسن الأداء و بالدعابة، و كان لاسكتشاته الكوميدية المرتجلة في السوق و المنازل وقع ترفيهي لطيف و أثر توعوي نظيف.

و في هذا المجال لا يمكن أن يغفل أو ينسى الدور الكبير الذي كان يطلع به الاستاذ احمدو انجاي رئيس فرقة أضواء والعازف الكبير سمارى. لقد ساهم الاثنان في نشر ثقافة التسامح والجمال من خلال المحافظة على الرقص التقليدي و إحياء الفلكلور الشعبي للمنطقة.

يقول الحسين ولد أحيمد أحد أعضاء فرقة أضواء "إن الفرقة نظمت أول مهرجان ثقافي لها عام ١٩٨٥م في كيفة و أنها كانت تلعب أدوارا متعددة منذ تشكيلها ١٩٨٤م بدءا بالمشاركة في حملات التحسيس ضد الأوبئة والأمراض و مخاطر التدخين و نبذ الكسل، و حملات محو الأمية والتوعية بضرورة المحافظة على الوسط الطبيعي والحث على الزراعة والاهتمام بالمنتوج المحلي؛ كل ذلك من خلال المسرح والرقص والغناء؛ لأنها أعمال فنية أبلغ من أي وسيلة أخرى". و يضيف "لقد نظمنا أنشطة ثقافية عديدة في مختلف مقاطعات الولاية، وشاركنا في مهرجانات متعددة تم تنظيمها في انواكشوط و بعض الولايات الأخرى في ثمانينيات و تسعينيات القرن الماضي"

لقد شهدت الساحة الثقافية للمدينة -إذن- منذ ثمانينيات القرن الماضي حراكا ثقافيا غير مسبوق، تمخض عن وجود أندية عديدة حملت راية التثقيف و التنوير سبيلا إلى خلق مجتمع يعرف واجباته و يعي جسامة التفريط فيها . كان الاستاذ عبدي ولد اسماعيل الذي فتح مكتبة العلم و الإيمان ١٩٨٧م -ثاني مكتبة بعد مكتبة أحمد الهدى- من أوائل الذين سخروا جهودهم لخدمة الأنشطة الثقافية و دعموها ماديا و معنويا. يقول الأستاذ عبدي ولد اسماعيل "إنه ترأس نادي نسور الجو الثقافي و الرياضي ١٩٨٩ و كان عضوا دائما في أغلبية لجان التحكيم الثقافية في كيفة طيلة ثمانينيات و تسعينيات القرن المنصرم، و أنه كان أول من أدخل طابعة عربية إلى المدينة ١٩٨٨م، و أول من فتح بها فندقا (فندق الصداقة) سنة ١٩٩٠م"

ومن أشهر الأندية التي ظهرت في المدينة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين نادي الحزام الأخصر الذي ساير أعضاؤه النشاط الثقافي بالنشاط الرياضي حيث كانوا يصدرون مجلة منتظمة (مجلة الحقيقة) ،و كان لهم فريق رياضي دخل الدوري المحلي مرات. و من أبرز مؤسسيه الصحفي باباه سيدي عبد الله والإداري محمد ولد الحبيب والاستاذ سيد احمد واد ممدو ...

و كذلك من الأندية الرائدة التي ساهمت في خلق وعي مجتمعي في المدينة نادي مشعل الثقافة الذي أسسته مجموعة من تلاميذ الثانوية في منتصف تسعينيات القرن العشرين ممن ستكون لهم إسهاماتهم العلمية و بصماتهم الثقافية على المستويين الوطني و الدولي، و من هؤلاء الدكتور الشيخ معاذ سيدي عبد الله و المستشار الديبلوماسي عبد الله ولد النهاه و الأستاذ الشاعر صدف ولد احميت فال و الداعية الإمام عبد القادر الصيام ...

و كانت سينما دافيد بمثابة النافذة التي انفتحت للسكان على العالم الخارجي في وقت لا وجود فيه للشاشة الصغيرة في المنطقة مطلقا.

لقد أنجبت المدينة الكثير من العلماء والأدباء والشعراء والمثقفين الكبار الذين ذاع صيتهم في المشرق والمغرب من أمثال الدكتور محمد ولد ماديك الذي فتح أول معهد إسلامي في كيفة (يعرف محليا بمعهد ول ماديك) والعلامة الجليل محمد الإغاثة ولد الشيخ والقاضي المحدث محمد المخطار ولد سيدي محمد الملقب اجلب والمؤرخ الكبير إسلم ولد محمد الهادي والعالم الرباني محمد ولد سيدي يحيى والصحفي البارز باباه سيدي عبد الله والمخرج العالمي عبد الرحمن سيسيقو ....

٧-حضور المرأة

تعتبر المرأة في كيفة سيدة البيت، والقيمة على شؤونه والساهرة على إكرام الضيف؛ شأنها في ذلك شأن كل نساء بلاد شنقيط (موريتانيا). والباحث في تاريخ المدينة سيطلع فيما لا مراء فيه على الدور الريادي الذي لعبته -و لاتزال- المرأة في كيفة.

لقد شكل دخول المرأة العظيمة فاطمة منت خنفور قبل الاستقلال و بعده معترك السياسة من بابها الواسع قفزة نوعية في مجال الحريات، جعلت الأمر يبدو فيما بعد اعتياديا، ليتواصل العطاء مع أخريات من أبرزهن الناشطة الجمعوية والسياسية المخضرمة زينب بنت سيديني التي تقول "إنها مارست السياسة منذ نعومة أظافرها و أسست مكتب العمل من أجل المرأة والطفل، و هي أول منظمة غير حكومية على المستوى الجهوي ترأسها امرأة"

و كما كان للسيدة الفاضلة حيا سيلا دور ريادي في الشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية؛ كان للسيدة سلمها منت أعمرها دورها البارز في إنشاء تعاونية للصناعة التقليدية ظلت وجهة معلومة جذبت السواح من كل حدب و صوب لما تزخر به من منتوجات تقليدية محلية و تحف نادرة فريدة. لم يقتصر دور المرأة في كيفة على هذا فحسب، بل اشتهرت بعض النسوة فيها -و في حي القديمة بالذات- بقرى الضيف من أمثال منت اعفينة و جرجارة و مارة دجيكوه.

٨- التعليم

عرفت مدينة كيفة منذ نشأتها التعليم بشقيه المحظري والنظامي كونه رافعة البلدان، و طريق نهضتها، و سبيل خلاصها من براثن التعصب والرجعية.

و من أعرق وأكبر المحاظر التي استقطبت الطلاب على مر العصور محظرة أهل سيدي يحيى التي تدرس كل المتون الفقهية المالكية المدرسة في بلاد شنقيط، بالإضافة إلى محاظر أخرى عديدة منتشرة في كل أركان المدينة.

اما التعليم النظامي فقد ظهر مع نشأة المدينة، و تمثل في المدارس الاستعمارية الأولى التي واجهت معارضة شديدة من السكان حديثي العهد بالبادية والمتمسكين بالأعراف القبلية. و يذكر الوجيه اخيارهم ولد اسويدان بأن من أقدم المدارس التي شيدها الاستعمار في مدينة كيفة مدرسة école du village و مدرسة la medrassa الخاصة بأبناء الشيوخ، و بعد ذلك المدرسة رقم واحد الشهيرة (ècole 1) التي اكتملت أشغال بنائها سنة ١٩٥١م و درس بها جيل عريض من أطر البلاد ممن لهم معها ذكريات لا تنسى.و من المدارس العتيقة التي نالت شهرة واسعة في المدينة مدرسة كوميز (المدرسة رقم ٢) التي أخذت اسم شهرتها من اسم المهندس الذي أشرف على بناء بئر هناك.

و بدأ التعليم الثانوي مع منتصف سبعينيات القرن الماضي بعد اكتمال بناء إعدادية كيفة ثم الثانوية لاحقا مع مطلع الثمانينيات، و كان من أشهر المديرين الذين أداروا هذه المؤسسة الأستاذ المنير ولد الطلبة.

٩- الصحة

لم تعرف المجتمعات البدوية في المنطقة الطب الحديث إلا في مرحلة متأخرة، ومع ذلك لم تستسغه ولم يجعلها تتخلى كليا عن الطب التقليدي و لا عن الاستشفاء بالرقية، و كان من أشهر الأسر التي عملت في مجال الطب التقليدي في مدينة كيفة أهل المقري حيث ظل كل من محمدفال ولد النينة و النينة ولد عبد الجليل (ابني المقري) يمارسان المهنة المتوارثة إلى عهد قريب. و كان البناني ولد الشيخ أحمد من أشهر الراقين الذين يعالجون الصرع والجنون.

أما الطب الحديث، فقد ظهر مع وجود المستعمر، حيث أقام نقاطا صحية على فترات ثم شيد مركزا صحيا في الجهة الشرقية من حي القديمة في أربعينيات القرن الماضي و هو المعروف اليوم بالمستوصف المركزي وقد اطلع بدور مهم جدا، لكن ظل الإقبال عليه ضعيفا رغم كل ما قيم به من حملات التحسيس و التوعية. و مع مطلع السبعينيات مكن التعاون الموريتاني الصيني من بناء مستشفى كبير يشرف عليه طاقم طبي صيني، يتميز بمهنية وكفاءة عاليتين، جعلت الناس تقبل عليه من المدينة و ضواحيها، و حتى من بعض مناطق الوطن الأخرى .. ساهمت هذه البعثة في نشر الوعي الصحي و إضفاء المصداقية على الطب الحديث من خلال أدائها الجيد و النسبة العالية لنجاح عملياتها الجراحية، كما ساعدت في التصدي للكثير من الأوبئة والأمراض التي عرفتها المنطقة كالكوليرا والحصبة والملاريا ... و منذ ذلك التاريخ ارتبط ذكر كيفة ب "طب الصين".

١٠-الرياضة

لا شك أن المجتمعات البدوية والقروية مجتمعات رياضية بطبيعتها؛ نتيجة أعمال الرعي والفلاحة، و ما يتعلق بهما من مهام. و رغم ذلك فقد مارس السكان في كيفة الرياضة بشكل شبه منتظم منذ التأسيس في الأعياد والمناسبات الاجتماعية ولو على سبيل الترفيه؛ كسباق الخيول والجمال والمصارعة والماراتون، و كان للرياضات العقلية مثل "ظامت"و "تشوك" و "السيك" هواتها ومشجعوها.

و مع وجود مدارس الاستعمار في المدينة ظهرت الرياضة في ثوب جديد أكثر حداثة و تنظيما، و أكثر تنوعا و ترفيها. يقول الطالب مصطف جارا رئيس العصبة الجهوية لكرة القدم بلعصابة :

" يعتبر المعلم دافيد موخوري انتبى لويس أول مدرب تحولت الرياضة بفضله منذ ١٩٦٢م إلى عادة مدرسية أحبها التلاميذ و شجعها الأهل. فدخلت الكرة الطائرة و كرة السلة و كرة القدم مضمار المنافسات و حققت الفرق مكاسب لا يستهان بها على المستوى الوطني .

و كان من أشهر لاعبي الكرة الطائرة في منتصف السبعينات كل من زيد ولد مسعود و ابراهيم بوكم و أحمدو انجاي و محمد سالم ولد مرزوك ، و من العدائين امعيتيك و صغيرو ولد السالك الذي حصل على الميدالية الذهبية في سباق ال١٥٠٠ متر في انواكشوط سنة ١٩٧٤م .

كما يعتبر كل من ميشل فيرجس و محمد خطري سكان و مودي كمرا مع غيرهم جيل التأسيس لفريق كيفة الأول لكرة القدم والذي تشكل مع مطلع ستينيات القرن الماضي. و بفضل هؤلاء شهدت كرة القدم في المدينة بداية مشجعة.

ثم واصل الجيل الثاني المشوار على نفس المنوال، و من أشهر أولئك رينى فيرجس و زيني سلمه و ساليكو جالو و بلخير و اعمر ولد ابيسيف و إسلم تشوب و زيد ولد مسعود و سيدي مولود ولد ابراهيم و أحمدو انجاي ... الخ و في الثمانينيات ظهرت أندية عديدة مثلت الولاية على المستوى الوطني في كرة القدم و من أبرز هذه الأندية نادي ASK و نادي اتحاد و نادي FLM و نادي أنتو و نادي الحزام الأخضر و نادي كونكورد و نادي أدباي ... الخ

غير ان الحسرة تنتابني - يقول الطالب مصطف جارا- حيث أشعر بأن الرياضة لم يعد لها نفس البريق و لا نفس الجاذبية التي حظيت بهما في السابق؛ فقد كانت متبناة من الجميع، و ممولة الأنشطة من طرف كبار التجار، واليوم تشهد انتكاسة تعكسها النتائج الهزيلة المحققة خلال السنوات الأخيرة بسبب غياب الدعم و ضعف المؤازرة".

إعداد الحسن ولد محمد الشيخ للمجلة الثقافية

1 مشاركة

  • من احسي بابو إلى القديمة (عندما تدور ذاكرة كيفة) 19 حزيران (يونيو) 2023 09:39, بقلم سيدي القاسم الغوث

    اخي الفاضل الحسن٠ وانت شخصيه ادبيه و(ثقافيه)كان حري بك ان لا تتغاضي عن مقاومه اهل اركيبه (كيفه) بقياده المجاهد سيدي ولد الغوث ورفضه المبايعه والخضوع للقوي الاستعماريه. والتي كانت من اهم اسباب انتقال القوي الاستعماريه انذاك الي المنطقه وانشاء مركز كيفه٠ فقد وتوالت الهجمات غلي المستعمر بقياده سيدي بن الغوث في كيفه وضواحيها٠ فكانت معركه كيفه ١٩٠٨, ١٩١٠ ومعركه اجار لعصابه وغيرهم مما لاتزال الذاكره الشعبيه تتغني بامجاده٠
    اخي الفاضل هل تعلم ان في كيفه عمد المستعمر فورا بعد انشاءه مركز كيفه الي جمع آلاف المخيمات من مجموعه سيدي ولد الغوث فورا بعد رجوعه منتصرا من معركه النيملان , مما تسسب في مءات الوفيات وهو ما كتبت عنه الصحف الفرنسيه انذاك, والذى يعتبر اباده جماعيه قام بها المستعمر انذاك في حق مخمات هاذه الجماعه المقاومه٠ كان حري بك اخي الفاضل ان تري ان هاذه الاحداث هي مجد لك ولساكنه لعصابه جميعا وان نعتز بها فهي تمثلنا جميعا.

    الرد على هذه المشاركة

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016