يمتلك الموريتانيون تاريخا مشحونا بخيبات الأمل مع الانتخابات منذ تعرفوا عليها لأول مرة سنة 1946، حين أتاحت لهم السلطات الاستعمارية إمكانية انتخاب ممثل عنهم في الجمعية الوطنية الفرنسية؛ إذ سرعان ما حولها الوجهاء والحكام المتسلطون من آلية للاختيار العادل بين المتنافسين، إلى أداة لتزوير الإرادة الشعبية وصناعة الطغاة وسد المنافذ أمام التغيير الديمقراطي.
ومع ذلك لم يخل تاريخ الانتخابات ـ الذي هو أيضا تاريخ ازدهار مواسم النفاق وتجبر التشكيلات الاجتماعية المتخلفة على الدولة وتطاولها على مكانتها وهيبتها ـ من لحظات مضيئة تمكنت خلالها شخصيات وطنية أو قوى سياسية من فرض إرادتها على جبروت السلطة ومختلف دوائر الدعم والاسناد السابحة في فلكها.
وإذا كانت الانتخابات الحالية، تقدم مزيدا من الأدلة حول جشع السلطة وتوابعها واستماتهم في الاستحواذ على كل شيء وفرض هيمنة قاسية حتى على تفاصيل المشاهد السياسية المحلية، فإن ما جرى في بلدية كيفه يجدر النظر إليه باعتباره إحدى الومضات المضيئة التي تبقي الأمل قائما في أن إرادة السلطة قابلة للهزيمة وفي أن الانتخابات تستطيع قلب الطاولة على من يستخدمونها لوقف عجلة التغيير.
من كان يصدق أن عمدة بلدية كيفه الخارج لتوه من مأمورية صعبة، يستطيع الصمود ولو لساعات أمام السلطة، كل السلطة بوزرائها ومدرائها وكبار رجال أعمالها وحزبها الحاكم وربما بما هو أكثر من ذلك وأبعد تأثير؟ ومن كان مستعدا لتصديق أن العمدة لم يكن قادرا فقط على الصمود في وجه كل تلك الاغراءات والتهديدات، بل أيضا على الانتصار على كتائب النظام التي جندت بخيلها ورجلها للتنكيل به والقضاء عليه؟
خلال مرحلة الترشحات ومحاولات ثني العمدة عن منافسة الحزب الحاكم، بدت مدينة كيفه من هول التهديدات وحجم الضغوط وكأنها توشك أن تسقط فوق رؤوس ساكنتها، غير أنها ما إن بدأت الحملة حتى ارتجت جميع أركانها تحت صخب التشكيلات والآليات المشاركة في هجمة غير مسبوقة لمختلف أذرع السلطة تمثل هدفها الأبرز في تقديم رأس العمدة على طبق من ذهب لخصومه من بارونات السلطة.
لكن العمدة المتمرد، المؤمن بعدالة قضيته وضرورة بذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيقها، تمكن بنجاح من تخطي جميع العقبات ورفع كل التحديات وبالتالي من الخروج من معركة كيفه مرفوع الهامة.
ومع ذلك فإني لا اعتقد أن يأخذ هذا الفوز العمدة جمال إلى الغرور فهو يعرف أكثر من غيره أن الهبة الشعبية التي دفعت به إلى هذا النجاح التاريحي ليست بسبب حصيلته خلال المأمورية الماضية؛ إنما شعر الناس بالهوان على السلطة و تحويل بلدية كيفه إلى ساحة لعرض جبروتها وفرضها لمرشح بعينه فجذب الرجل اهتمام الرأي العام حين مثل الصمود والممانعة.
إن نشوة الانتصار التي خالجت نفسه لا يضاهيها في اعتقادي إلا حجم الشعور بالحرج اتجاه هذه الجماهير الكريمة ؛وهو ما يفرض بكل المقاييس أن يستميت هذا الجمال في تحويل مأموريته الجديدة إلى انتصار آخر، وبنفس القوة والإصرار التي قهر بها منافسوه الأقوياء ينبغي أن يواجه القمامة والفوضى الحضرية وأن يضيف أشياء على البنية التحتية في مدينته.
عليه وقد دخل التاريخ أن يعمل بما أوتي من قوة لخلق خمس سنوات سمان تنسي من اختاره الخمس العجاف، وأن يقود هذه البلدية فيخرجها من التردي الذي لازمها على طول قرابة 4 عقود.