رحلة ممتعة إلى قرية "لكران"/ الأستاذ إسلمو ولد آحمد سالم
وكالة كيفة للأنباء

(1)

تدفعني إلى لكران نوازع بعضها قديم و بعضها حديث ، و لكن حديث الناس عن جمال القرية ، و عن عمدة "لكران" ، سيدة لعصابة القوية ، يجعلني أكثر تلهفا لقراءة الواقع ، و الإطلالة من نافذة التاريخ ، و قراءة جماليات الأرض و العادات و الناس ...

بعد يوم شاق من تحضير السفر ، و مراجعة اليابانية ، انطلقنا في حدود القيلولة في اتجاه الجنوب الغربي ، حيث يتوجب علينا فطع مسافة 45 كلم على طريق رملية وعرة ، بين تموجات الكثبان التي تتخلل الأشجار، و سهول بها احراش تتخللها أشجار السلم (التمات) و الطلح و السدر و السرح(آتيل) و المرخ (تيتارك) و المسيم(تيشط) و الكلاكل(اندرن) و السنط(آمور) بكثافة، و تغطي أرضيتها أعشاب الحسنكيت (إنيتي) شديدة الحماية ...

كنا نتعقب سيارة مرسيدس متهالكة لتدلنا على الطريق ، و كنا نخوض غمار عمليات صعود و هبوط ، و إقلاع و نزول مريعة، و في تضاريس متعددة المعطيات ، و منطقة رعوية كثيفة الأشجار، و الحشائش و الأبقار، و مناظر جميلة ، و أرض تعود سكانها على عزة النفس ، و النوال الطبيعي المتوارث ....

على مسافة 15 كلم من كيفة تقع قيعة "اكريكط" ، و هي منخفظ يحتفظ بالمياه لفترة طويلة ، و هو ملتقى طياش الإبل و الأبقار، و تحف به الأشجار.

لاحظت أن المزارعين الذي يزرعون جنبات البحيرة يمعنون في قطع الأشجار على الطريقة القديمة التي كانت سائدة ، حين تقام الحظائر بالأشجار ، و استغربت كيف لحماية الطبيعة و عمدة البلدية التي تتبع لها التامورت أن تسكت على هكذا أفعال شنيعة ...

كان مؤشر حرارة اليابانية يتصاعد ، لأن سيارة الدليل تحاكي السلاحف ، و كانت الطريق الرخوة تنذر بابتلاع العجلات ، فعمدت إليها و نقصت حمولتها من الرياح ، فعندنا في الفيزياء أنه إذا كانت القوة ثابتة فالضغط يتناسب عكسا مع المساحة المعرضة للقوة ، إضافة إلى المرونة التي تمتص جزءا من القوة .

..... (2) ...

مع ارتفاع حرارة الشمس ، و ارتفاع مؤشر الحرارة في اليابانية ، و حركة الهوينى التي تسير بها سيارة دليلنا ، انغرست عجلات السيارة في الرمل و توقفت عن السير ، بل إن المحرك توقف عن الدوران ، و لعلها فرصة لاستجماع القوى و تبريد المحرك ، و تغيير المسار إلى طريق أكثر أمانا، و لعل هذا ما ينبغي ل"لمسار" أن يفكر فيه ..

كان علينا أن نقطع "بطحة رأس الطارف" الرخوة ، و قد أثار انتباهي جمال الاسم ، و لست أعلم هل الاسم من "طرف العين" أم هو من "الطارف" التي تعني الجديد ..

بعد رأس الطارف قررت عدم التماشى و زحف المرسيدس ، فتجاوزتها مع الطريق ، و هم يسمون آثار عجلات السيارات هنا اسما لم أعرف مما اشتق و هو "الخل" ، بفتح الخاء.

دخلنا القرية من الشرق ، فظهرت بيوتاتها المبعثرة بين الاشجار و الأحراش، و كان المدخل رائعا بكلما تحمله العامة من معنى ، ففي حين ترقد المياه و الاعشاب المخضرة على أديم الأرض تتعانق أشجار (أزكلم) فوق المارة ، فقلت لو أن الناس استثمرت في هذه الأرض الخصبة ، و أقامت مشاريع لإنتاج الخضروات، لما انتبه الناس و ما فطنوا لإغلاق معبر "الكركارات"، و لما كانت هناك ازمة طماطم . و لا بصل ..

رغم تواضع المباني ، و عدم انتظامها، و انتشار "المرحان"’بين المنازل ، إلا أن بساطة الحياة و أريحية الناس تشعرك بقدر كبير من الطمأنينة و الارتياح ..

تقع القرية في موقع جميل ، ففي حين تحيط بها الجبال من الشمال و الغرب ، يمتد كثيب مرتفع جنوبها ، و لا يجد الداخل إليها غير المدخل الشرقي الذي تقع البحيرة عند نقطة العبور منه نحو لقرية، و تمتد البحيرة شمالا ، و تفصل بين القرية و الكدى الشمالية اقتطاعات ريفية، إقيمت بها منتجعات للحيوانات و سدود ، و على امتداد المنخض الذي يفصل القرية و الكثيب الجنوبي تمتد واحات النخيل و الحدائق.

موقع جغرافي جميل ، و منطقة رعوية غنية بالاعشاب و الأشجار، مياه عذبة أثار انتباهي رقتها ، و أعداد كبيرة من الأبقار و الإبل ، و لم ألاحظ تواجد الأغنام، و قد قيل لي إن الأغنام أرسلت هذه الفترة لما يعرف با"لكرص" ، و للكرص قصة مع ولد أعمر ولد أعل و الشور الذي "شوهد" به و أصبح منطلق "أبياظ" كر...

.... (3) ..

وصلنا وقت صلاة الظهر ، و لن أحدث عن مستوى الاستقبال و لا حفاوته، فهي سجية عرفت بها الناس هنا عبر التاريخ ، و لكن المثير هو المسحة المدنية التي طبعت ذلك ، من حيث هدوء المكان و مستوى الضيافة و الأثاث و الأدوات..

مع ساعات المساء الأولى تبدأ حياة أخرى في الدبيب ، فقد بدأت الأبقار تزحف نحو المنازل ، و ملأ خوارها الأفق، و لا تخطئ عينك عجلا يندفع نحو أمه ، و صغارا يستمتعون بالمشهد ، و حركة "التاديت" و "إززاتن" في مشهد ممتع يحكي حياة عاشها أغلب الموريتانيين ، و لا يزالون يرون المتعة فيه وحدها..

بعد صلاة المغرب ، تكشف الليل المقمر ، تحت بدر ليلة تمامه ، عن عرس في القرية، فقد ملأ أزيز الرصاص الأفق، مخللا بالزغاريد و منبهات السيارات، و تقاطر الناس نحو المكان، و يبدو من الحفل أن "النيفاره" هي سيدة الموقف ، و على تلك النغمات الجميلة و "الأشوار" التقليدية تمايلت الأجسام و الأنفس، و انغمس الناس في أجواء الفرح و الحبور، في مظاهر بسيطة و عفوية ، لكن تلتزم بالذوق العام بدرجة كبيرة ..

ما يثير الانتباه في "لكران" هو هذا المجتمع الصنهاجي الأصيل الذي طوع الزناد، و عرف بالشدة و البأس، كيف يحتضن طبيخة من مختلف مجتمعات البلد، تحتفظ كل أسرة فيه بانتمائها و خصوصيتها، و "ميسم" مجتمعها، و قيمها ، لكنها تدخل الإطار العام و تحس بإحساسه ، و تشعر بالانتماء له ، و منها العلماء الأجلاء و أصحاب المال و الجاه ، و رجالات المجتمع الفاعلين..

بلدية "لكران" تديرها سيدة لعصابة القوية العالية منت منكوس، و هي أمينة عامة لوزارة، و يختلف الناس هنا في تقييم أدائها، كما يختلفون في حكايا الطريقة التي وصلت بها للمنصب، لكنها حاضرة في كل التفاصيل بالتناول، تثمينا و انتقادا ، و لعل قضية الاصطفاف السياسي داخل السلطة كانت ديدنا عند الأنظمة حتى يتم إلهاء الناس عن مشاكلهم ..

..(4)....

كنت على موعد مع حمى شديدة مع صلاة العشاء ، كانت بوادرها قد انطلقت و نحن في كيفة ، و كانت درجة الحرارة شديدة و آلام في الرأس و اللوزتين، و فبت في حالة شبه إغماء طوحت فيه الأخيلة إلى كل العوالم، مع كل أنواع المخلوقات ، مع الإنس و الجن ، و المخلوقات الفضائية و الخيال العلمي ، و المغامرات و الأحاجي، و قد خلت أن رأسي تضاعف وزنه ، و أن طريق البلع قد سدت تماما.

في الصباح عدت للواقع و بادرت لأخذ مخفضات للحرارة، لأن هناك مشهد يجب ألا أفوته، و هو زيارة "اجباية" ، فطالما تحدث عنها أبناء "لكران" و غيرهم من سكان الولاية ، و هي في الحقيقة موقع سياحي بامتياز، فلو أن مستثمرا اقام نزلا ثغيرا ، و قام بدعاية بسيطة في جهات وطنية و عربية و دولية ، لتمكن من الحصول على دخل كبير و استجلب عملة صعبة و وفر فرص عمل لعدة أفراد..

تبعد "اجباية" سبعة كيلومترات عن القرية، و هي شجرة ضخمة ملساء ، كثيفة الأفنان تقع في جانب الأخدود المنحدر من الجبل، و الذي يجري معه مياه الينبوع الذي لا يتوقف عن الجريان، و تكثر الأشجار و تتنوع ، و يرسم المشهد المكون من الجبل الحاني على المنخفض المرصع بمختلف الأشجار ، و تغطي أرضيتها أعشاب خضراء ، و يمتد الأخدود مطلقا ماء زلالا ، يظهر خلال تموجات سيله تربة بيضاء نقية تضاهي الماء لطافة و جمالا ..

حاولنا أن نصل إلى نقط تفجر الينبوع ، لكن وعورة الطريق و الصخور المسننة منعتنا من التسلق ، لكن الموقع كان ساحرا بكل معاني الكلمة ..

في المساء ودعنا قرية "لكران" الوديعة ، و التي تحكي حكاية العديد من القرى في موريتانيا ، حيث تشكل مخزونا للقيم و الأخلاق و الجمال ، و تحافظ على التواصل بين الماضي بثوابته و الحاضر و إكراهاته، بطريقة تحفظ عريق القديم و جميل الحاضر ، فتربي أجيالا محملة ثقل الماضي و مسؤولية المستقبل ..


  
وكالة كيفه للأنباء - AKI
2021-12-08 23:02:02
رابط هذه الصفحة:
www.kiffainfo.net/article32619.html